خلق الرحمة في الإسلام.. كيف تبني مجتمعات متماسكة وقوية؟
الرحمة من أعظم الأخلاق، وقد وسعت رحمته سبحانه
كل شيء، فشملت المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصغير والكبير، واتسعت لتشمل الدنيا
والآخرة.
والمؤمن الحق هو الذي يتحلى بكل خلق إلهي،
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم صحابته صورة من صورة رحمة الله عز وجل بخلقه حين
أقبلوا عليه بسبي، فإذا بامرأة تسعى، قد تحلب ثديها، إذ وجدت صبياً في السبي، فأخذته
فألزقته ببطنها فأرضعته؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحة
ولدها في النار؟»، قالوا: لا وهي تقدر على ألا تطرحه، قال: «فالله أرحم بعباده من هذه
بولدها» (رواه البخاري).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعلَ
اللَّهُ الرّحْمةَ مِائةَ جُزءٍ، فَأَمسكَ عِندهُ تِسعَة وَتسعِينَ، وَأَنزلَ في الأَرض
جُزءًا وَاحدًا، فمِنْ ذَلكَ الْجزءِ يَتَراحمُ الخلائِقُ حتى تَرفعُ الدَّابةُ حَافِرها
عن ولدِها خشيةَ أن تصيبه» (رواه مسلم).
الرحمة جوهر الرسالة الإلهية
المتأمل في القرآن يجد أن لب رسالة النبي
صلى الله عليه وسلم الرحمة بالعالمين، ضماناً لسعادتهم في الدنيا، وإنقاذاً لهم من
غضب الله وعذابه يوم القيامة، فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:
107)، والرحمة منظومة قيمية تشمل الإنسان والحيوان والطبيعة من حوله، تحدد معالم
العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وصورة العلاقة بين المسلم وربه، يقول الطبري: «أي
أرسلناك يا محمد رحمة لمن آمن بك، ومن لم يؤمن بك، لأنك تدعوهم إلى الخير وتكف عنهم
الشر»(1).
الرحمة قوة لا ضعف
يحسب البعض أن التعامل مع الناس بالرحمة واللين
نوع من التهاون والضعف، بينما هي في حقيقتهم مفتاح قلوب الآخرين، يقول النبي صلى الله
عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَن فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُم
مَن فِي السَّمَاءِ» (رواه الترمذي)، فليس ضعفاً أن يرى العالم أخلاق دينك من خلال
أخلاقك، بل هي لب القوة وحقيقتها.
الرحمة في العلاقات الاجتماعية
وضع الإسلام الرحمة كأساس ثابت للعلاقات الاجتماعية
بدءاً من الأسرة وانتهاءً بالأمة، فقال تعالى: (ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، فالرحمة في ديننا ليست أمراً
عابراً، وإنما نظام ومنهج حياة متكامل ومستمر، يقول ابن كثير: «المودة والرحمة هما
عماد الحياة الزوجية، فبغيرهما تفسد العلاقات وتنهار الأسر»(2).
وفي التعامل مع الخصوم يقول تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ
مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل:
126)، ويقول تعالى موصياً بالرحمة في القصاص: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40).
الرحمة العامة في التاريخ الإسلامي(3)
القيم النبيلة والسامية حين تتوقف عند كونها
مجرد قيم نظرية، تتحول إلى فكرة فلسفية لا تختلف كثيراً عما هو مكتوب في كتب الفلاسفة
القدماء مثل أرسطو، أو مدينة أفلاطون التي ظلت مجرد نظرية في كتاب يعرفها أي تاريخ
إنساني، أو جغرافية محددة، توقفت عند كونها مجرد أمنية غير قابلة للتطبيق.
وقد أثبت التاريخ والواقع أن هناك فرقاً كبيراً
بين القيم الإسلامية وغيرها من القيم، فالإسلام لم يأت على صورة مواعظ نظرية، وإنما
أتى بقيم عملية تم تطبيقها كاملة في مجتمعات استطاعت أن تحيل النصوص لواقع عملي حتى
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: «كان
خلقه القرآن» (أخرجه أحمد)، وقال الله عز وجل فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
وكذلك فعل صحابته من بعده، حتى يقول عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: «لو أن بغلة في العراق عثرت، لخشيت أن يسألني الله عنها، لمَ
لمْ تمهّد لها الطريق يا عمر؟»، وذلك في تعبير بليغ عن المسؤولية الاجتماعية التي تتجاوز
الذات إلى كل كائن حي، وتاريخ المسلمين في رعاية الفقراء والمساكين والأيتام شاهد على
أن الرحمة كانت سياسة دولة.
والمجتمع الذي تغيب عنه الرحمة يتحول إلى
غابة من الأنانية والتنافس القاسي، أما حين تكون الرحمة القاعدة، فإن الثقة تتسع، والتضامن
يترسخ، والأمن الاجتماعي يتحقق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى» (رواه مسلم).
إن قيم الرحمة والعدل والتعاون والتكافل لم
تكن يوماً مجرد شعارات أخلاقية كالتي نسمعها في عصرنا في المنظمات الدولية ولم تستطع
تطبيقها على الواقع العالمي المر، وبالمقارنة بالتاريخ الإسلامي، نجد أن منظومة القيم
الإسلامية كانت منظومة سياسية واجتماعية أعادت للإنسان كرامته ومكانته التي يستحقها.
نحو تربية رحيمة تبني المستقبل
الرحمة تولد الرحمة، والطفل الذي يتم تربيته
على الرحمة بغرسها في نفسه، يخرج للمجتمع رجلاً حاملاً الرحمة في قلبه وسلوكه، خاصة
إذا تكاملت التربية الأسرية مع المناهج التعليمية، وهذا هو الشرط الأول لنهضة أي مجتمع
واستمراره؛ ومن هنا، فقد وجب على المجتمع المسلم أن تدرس فيه الرحمة كقيمة تربوية لازمة
لصلاح المجتمع، لا كدرس نظري في المناهج المدرسية ووسائل الإعلام.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر
الناس رحمة في تعامله مع الأطفال وهو الذي قال عن نفسه: «أنا نبي الرحمة» (رواه مسلم)،
وعن أنس قال: «ما رأيتُ أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(رواه مسلم).
حظ المؤمن من الرحمة
يقول الشيخ القرضاوي رحمه الله: «وحظ العبد
من اسم «الرحمن» أن يرحم عباد الله الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ
والنصح بطريق اللطف دون العنف، وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة، لا بعين الإيذاء،
وأن يرى كل معصية تجري في العالم كمعصية له في نفسه، فلا يألو جهداً في إزالتها بقدر
وسعه، رحمة لذلك العاصي من أن يتعرض لسخط الله تعالى، أو يستحق البعد عن جواره.
وحظ العبد من اسم «الرحيم»: ألا يدع فاقة
لمحتاج إلا ويسدها بقدر طاقته، ولا يترك فقيراً في جواره أو في بلده، إلا ويقوم بتعهده
ودفع فقره، إما بماله أو جاهه، أو الشفاعة إلى غيره، فإن عجز عن جميع ذلك، فيعينه بالدعاء،
وإظهار الحزن، رقة عليه وعطفاً، حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته»(4).
____________________
(1) تفسير الطبري، سورة «الأنبياء» الآية
(107).
(2) تفسير ابن كثيرة لسورة «الروم» الآية
(21).
(3) ابن الجوزي، صفة الصفوة، ج2، ص87 (بتصرف).
(4) الإيمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي.