دور التربية المتوازنة في الحد من الإلحاد
من أجلِّ نِعَم الله تعالى على الإنسان أن يرزقه الذرية الصالحة، فقد جُبل الإنسان على حب الأولاد، ولا تكتمل بهجة الدنيا وزينتها إلا بهم، غير أن تربية الأبناء تربية سوية صالحة لمن أصعب المهمات في زماننا هذا؛ ذلك أن لها قواعد ومبادئ، ينشغل عنها كثير من الآباء والأمهات؛ إما لسوء تقدير النعمة التي بين أيديهم، وإما للانشغال الدائم بحثاً عن الرزق في وقت تشهد فيه غالبية دول العالم بما في ذلك دولنا العربية والإسلامية «تسونامي» أسعار لا تقوى على مجابهته جل الأسر.
واليوم مع كثرة المثيرات الخارجية والانفتاح الضخم على الثقافات الأخرى، بفعل الإنترنت والهواتف المحمولة والألعاب الإلكترونية والأفلام، وبروز عوامل دخيلة للتنشئة على حساب عوامل رئيسة، تلاشى معها دور الأسرة لحد كبير، وهي التي تشكل في الأصل الحصن الواقي للأبناء والبنات من الانحرافات الفكرية التي تخالف الدين والقيم والأعراف الأصيلة أضحى الشباب عرضة للأفكار الهدامة التي تقرب الشهوات إلى قلوبهم، والشبهات إلى عقولهم، وقد يلحد الواحد منهم إلحاداً كاملاً فينكر وجود الله تعالى ويرفض الدين رفضاً قاطعاً، وقد يلحد إلحاداً جزئياً، فيعلم أن للكون إلهاً لكنه يتصرف على نحو مغاير فينتهك الحرمات، ويسخر من الدين وأوامره، ونواهيه.
ومهما تعددت مؤسسات التنشئة لا غنى عن الأسرة، فهي الركيزة الأساسية في قوة المجتمعات، وهي المنوط بها غرس القيم الكفيلة ببناء نماذج سوية متكيفة مع واقعها الاجتماعي في ظل التغير الهائل والزخم الثقافي غير المسبوق، ويخطئ من يعتقد أن مهمة الأسرة تكمن في توفير المأكل والمشرب والملبس، وهذا ليس من التربية في شيء، فكبير فرق بين الرعاية والتربية، فالأولى تتعلق بتوفير الطعام والشراب والملبس، والثانية تتعلق بغرس القيم والأفكار وتطوير السلوك وتأهيل على كل المستويات لتحديات المستقبل، والأصل ألا تنشغل الأسر بالأولى عن الثانية؛ ليساهموا في إفراز نماذج قادرة على إيجاد نموذج سوي نفسياً وفكرياً.
والواقع يقول: إن كثيراً من الأسر تخشى على أولادها من المرض، أو من عدم القدرة على تأمين مستقبلهم بالشكل المرضي، أو الخوف من ضعف نبوغ الأبناء العلمي، لكن الخوف الحقيقي يجب أن يكون لدى أولياء الأمور من تسرب الإحباط إلى نفوس الأبناء، والقلق إلى قلوبهم، والوساوس إلى عقولهم.
غياب التوازن
وما بين الخوف الشديد على الأبناء وعلى مستقبلهم، واللامبالاة التي تعكس خلو أصحابها من أي نزعة إنسانية؛ تعيش ملايين الأسر العربية، تظهر تجليات غياب التوازن هذا في انهيار البيوت، وانتحار الأبناء، وتشرد الأطفال، وتمكن الأفكار الإلحادية، وغيرها من الظواهر الاجتماعية الأخرى، فلا التربية الصارمة مجدية لأنها تضعف وتقتل التلقائية لدى الطفل، ولا يتمكن المربي معها من اكتشاف طريقة تفكير الطفل فيضعف عزمه عن معرفة ماذا إذا كانت أفكار الطفل صحيحة فيعززها أو منحرفة فيعالجها، ولا التربية المتساهلة مجدية لأنها تصنع شخصية مائعة مهملة لا تقوى على تحمل مسؤولية ولا تمتلك عادات اجتماعية متطورة، وتصبح عرضة لكل الأفكار الحسن منها والقبيح.
إن ضعف التربية وبعدها عن التوازن المطلوب سبب من أسباب الإلحاد الآخذ في الانتشار بين الشباب اليوم، ذلك أن التربية الصحيحة التي تعتمد المنهجية الإسلامية المتوازنة التي تؤمن بتأصيل العقيدة في نفوس الأطفال، وترسيخ مراقبة الله تعالى في أذهانهم بعيداً عن التسلط المرهق والتدليل غير المنضبط تقي النشء من مغبة الوقوع في الانحرافات النفسية والسلوكية والفكرية، وكل طفل تربى على غير بناء عقدي سليم معرض بشكل أو بأخر إلى الانحرافات بكل صورها وأشكالها، وكل طفل تربي على المثالية المفرطة معرض للانحراف الفكري.
ولهذا، أكثر ما يشغل بالي على المستوى الشخصي مع أطفالي هذه الأيام هو تعزيز النظرة المتوازنة تجاه الأشياء، أحاول أن أظهر لهم كل الألوان، وأن الحياة لا تقتصر على الأبيض والأسود، وأن أكثر ما يؤذي المشاعر ويكسر القلب ويضعف العزم، ويشتت العقل هو الجنوح عن الوسط، والركون إلى المبالغة في المشاعر والأقوال والأفعال، وأن المثالية مطلب صعب، ومع ذلك يجب أن نسعى لتحقيقه، وأن الأمور لا تقاس بنفسية آحاد الناس، فالأمر يختلف باختلاف المهمة والحيز الزمني والمكاني، فمن يعمل بالعمل العام عموماً أو لديه مهمات عظيمة كإقامة النظام الذي يحفظ من خلاله أمن المجتمعات ويصون الأعراض والأموال والأنفس عليه أن يختار في كثير من الأحيان بين شرين، لا بين خيرين، وصلاحه من عدمه مرهون باختيار الشر لا الخير، لكنه الشر الأقل تأثيراً، والأقل تدميراً، وأن كل البشر يخطئون، غير أن الصالحين منهم يلازمهم التستر لا المجاهرة، الاستغفار لا الإصرار، الاعتراف لا التبرير، الإحسان بعد الإساءة.
وإن الأخطاء التي وقع فيها بعض الصحابة انعكست في إيجاد مجتمع كامل، ذلك أنها -أي الأخطاء- كانت نبراساً ينير الطريق لاستقامة المجتمعات في كل زمان ومكان، وعليهم ذنب عظيم أولئك الذين صوروا للعامة أن السلف كانوا ملائكة لا يخطئون، ويفعلون من العبادات ما لا يتصوره عقل ولا يقوى عليه جسد!
أزعم أن ضيق المفاهيم، ورعونة التصرف، وضحالة الطرح التربوي الذي يريد المثالية في مجتمعات تئن من قسوة الواقعية، انعكس في اضطراب نفوسنا، وتعميق الخلل في حياتنا، وتنفير الناس من الدين وأهله، وتقريب الشباب من الإلحاد بمختلف صوره وأشكاله!
ما أحوجنا في هذا الوقت لضبط الأسلوب التربوي، ليكون أكثر واقعية، حتى لا يضطر مثلي للجلوس مع ملحد كان بالأمس القريب يبكي من خشية الله!