شبابنا والتقليد الأعمى!
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»(1).
لقد أصبح واقعنا المعاصر تجسيدًا حيًا لهذه النبوءة، إذ يشهد هذا الواقع بأن الأمة الإسلامية صارت تابعة لغيرها من الأمم، تلتمس خطى الغرب لتحذو حذوها.
وليتنا قلدنا الغرب في تطوره العلمي والتكنولوجي والتقني ونحوه، فالإسلام لم يمنع الأخذ عن غيرنا من الأمم ما ينفعنا من أدوات وسبل التقدم وإصلاح المعايش، لكننا مع الأسف الشديد، قد تركنا ما عليه الغرب من علم وتقدم وتطور، وصرنا نأخذ عنه عوائده الاجتماعية وأساليب معيشته التي لا ضابط لها، وتتصادم مع تعاليم ديننا.
الشباب هم أكثر الفئات تأثراً بالثقافة الغربية والانفتاح على أساليب معايش الغرب في المأكل والملبس والترفيه ونحوه، فترى شبابنا يهرولون باتجاه البحث عن موضات جديدة نشأت في الغرب، عن موضات الأزياء وقصات الشعر والرقصات، بل وصل الأمر إلى تقليد بعض الشباب للغرب في الاتجاهات العقدية كالإلحاد وعبادة الشيطان.
هذا التقليد الأعمى للغرب الذي هيمن على حياة كثير من شباب الأمة إنما هو نذير كارثي، فالشباب هم عماد الأمة، ولا قوام لها إلا بسواعد وهمم الشباب، فكيف الحال عندما يتحول شبابها إلى مسوخ غارقة في مظاهر الخلاعة والخنوع، فاقدين لهويتهم وتقاليدهم وأعرافهم التي تميزهم عن غيرهم من الأمم.
لقد كانت هذه المظاهر غالبة على أحوال الشباب الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية، لذا لم يجد الألمان عناء في احتلال باريس، فدخلوها في سهولة ويسر، ولكن لماذا يركض الشباب باتجاه التقليد الأعمى للغرب؟
الإجابة عن ذلك قد سبقنا إليها رائد علم الاجتماع ابن خلدون عندما قال: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»(2).
فالغرب يعيش في مرحلة علو مقابل الضعف الذي دب في الأمة الإسلامية، واستطاعت جيوشه بسط سيطرتها على بلادنا، وحتى بعدما انسحبت جيوشه ترك لنا ركامًا من قيمه وثقافته تنخر في منظومتنا القيمية والأخلاقية، وترك كذلك كوادر وأذناباً له من بني جلدتنا يكملون مسيرته في غزو العقول، وينصبون من أنفسهم جسورًا للمد الثقافي الغرب لكي تسلبنا هويتنا.
نضف إلى ذلك ما يراه الشباب من سيطرة غربية على مقاليد التكنولوجيا والتطور العلمي والتقني ومتوالية الابتكار والاختراع المبهرة، ويرى في المقابل أمة لا تستطيع صناعة دوائها ولا إنتاج غذائها ولا امتلاك سلاحها، أمة مستهلكة لا منتجة، تعيش على ما تستورده من الغرب في أغلب الأحيان.
هذه الأوضاع قد جعلت الشباب ينبهر بالغرب ويركض وراء عوائده وطرائق عيشه، بسبب اعتقادهم الكمال في الغرب المتغلب.
وهناك سبب آخر له تعلق بالسبب السابق، وهو غياب القدوات في هذه الأمة، ومع الأسف غياب القدوات ليس بسبب افتقاد النماذج، ولكن بسبب تهميش النماذج الصالحة لتنصيبها كقدوات للمجتمع، في الوقت الذي يتم فيه تلميع وإبراز وتقديم أصحاب المهن الترفيهية التي لا تقدم شيئاً عملياً للأمة.
وهذا أمر لا تخطئه عين، فالمنابر الإعلامية تسلط الضوء على أهل التمثيل والرقص والرياضة؛ حتى جعلت الجماهير تعيش في أخبارها وتتفقدها وتحفظها عن ظهر قلب، لكن أين علماء الفيزياء والكيمياء الحيوية والطب والهندسة والعلوم النافعة؟ هؤلاء لا يعرفهم غير أهل الاختصاص.
هذا التهميش للنماذج الفعالة، جعل الشباب فريسة للتقليد الأعمى للغرب المتقدم، ولا يمكن هنا أن نعول فقط على ماضينا الذي امتلأت صفحاته بالقدوات في شتى المجالات، فالشباب لا يحركهم إلا قدوات عملية تعيش في محيطهم لا العيش على ذكرى المجد التليد.
نضف إلى هذه الأسباب حالة الفراغ التي تجتاح أوضاع كثير من الشباب، فكما قيل: «العضو الذي لا يعمل يضمر»، فالإنسان الخامل مع الوقت تضعف همته، وكلما كان الشاب منخرطا فيما يملأ فراغه من الأمور النافعة؛ كان أبعد عن التقليد الأعمى، لأنه يحقق ذاته في مجالات عملية نافعة تكسبه الجدية التي تأبى أن يهرول صاحبها باتجاه سفساف الأمور.
الحل دائماً يكمن في تعزيز الهوية، فهويتنا الإسلامية تضع لنا تصورات واضحة عن مراحل وأسباب وأحوال القوة والضعف، فهي تغرس في المسلم الشعور بالتفرد والتميز بعقيدة التوحيد الخالصة، وتؤكد أن الأمة كما مرت بفترات من القوة والرفعة والازدهار، فشأنها شأن غيرها من الأمم تمر بفترات من الضعف، مع الفارق أننا نمتلك خارطة الثوابت التي نصل بها إلى النهضة والرفعة متى استكملنا مقوماتها، ومن ثم يعلم الشاب أن ما نحن فيه من ضعف إنما هو فترة مؤقتة وكبوة جواد سرعان ما ننهض منها.
من العسير أن نطرح خطوات محددة لتعزيز الهوية للخروج بالشباب من هذا النفق المظلم في تلك السطور، لكن بشكل عام هي مسؤولية مشتركة، تتقاسمها عدة مؤسسات.
فالأسرة هي المسؤول الأول عن صياغة شخصية الطفل في سنوات عمره الأولى، من التربية على العقيدة السليمة والالتزام بتعاليم الشريعة، وتعزيز قيمة العمل والحركة لديهم، فالمشاهد أن أكثر الشباب نأيًا عن التقليد الأعمى للغرب هم الشباب المتدين، وهذا بدوره يتطلب أن يكون الوالدان على قدر من العلم الشرعي والوعي الفكري والمنهجي، وهذا لن يتأتى إلا إذا كان الآباء والأمهات حريصين على محو أميتهم التربوية والشرعية، ولن يعدم كل أب وأم تحصيل ذلك عن طريق فضاء الإنترنت المفتوح الذي جعل بمقدور الإنسان أن يستمع ويشاهد كل العلماء والدعاة والمربين والمختصين ويستفيد منهم.
ويأتي المسجد كإحدى المؤسسات الرئيسة في عملية صياغة الشخصية الإسلامية وتعزيز الهوية، عن طريق دروس العلم والاحتكاك المباشر بالأئمة والدعاة الذي يوفر بيئة حاضنة سليمة يتربى فيها الكبار والصغار، على أن يراعى تحديث الخطاب الديني من حيث الأدوات العصرية وربط التشريعات والنصوص بالواقع الذي نحياه.
وعلى الدعاة والمثقفين الغيورين على أمتهم أن يستغلوا مواقع التواصل الاجتماعي، لربط الشباب بتاريخهم وإبراز التميز الحضاري لأمتهم، ليحدث لديهم نوع من التشبع بالتراث والتاريخ الإسلامي، ليكونوا على ثقة من عودة الأمة للريادة إذا ما سلكت الطريق الذي سلكه السابقون.
ثم يأتي على عاتق النقابات والهيئات العلمية أن تعمل على إبراز وتلميع العلماء والمختصين النابغين لتصديرهم كقدوات للشباب، وعدم الاكتفاء بالترويج لهذه الشخصيات في وسط الأكاديميين والدارسين، حتى يعلم الشباب أن هناك قدوات في أمتهم في شتى المجالات.
_____________________
(1) صحيح البخاري، (3456)، وصحيح مسلم، (2669).
(2) تاريخ ابن خلدون، (1/184).