دولة «إسرائيل الكبرى».. وهْمٌ تاريخي أم تهديد واقعي؟

د. أحمد عيسى

18 أغسطس 2025

377

مع استفحال غطرسة المحتل على شتى الجهات، ووسط صمت إسلامي غير مبرر ولا مفهوم، لم تسلم شوارع القدس وساحات المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة من اقتحام آلاف الصهاينة وتدنيس طهارة المكان وقدسية الزمان، متذرعين بنصوص تلمودية عنصرية، وصيغ توراتية محرفة النص والمعنى.

بل خرج رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ليفصح عن مهمته «الروحية» في التوسع لالتهام الدول العربية المجاورة لتحقيق ما يسمى بدولة «إسرائيل الكبرى»، فماذا يقول التاريخ؟ وماذا يخبئ المستقبل؟

كشف المؤرخ الراحل د. محمد عمارة عن أصالة التاريخ العربي للقدس، الضارب في أعماق التاريخ 60 قرناً، بدأت صفحاته ببناء العرب (اليبوسيين) لهذه المدينة في الألف الرابع قبل الميلاد؛ أي قبل عصر نبي الله إبراهيم عليه السلام بـ22 قرناً، وقبل عصر موسى عليه السلام بـ27 قرناً(1).

واليبوسيون هم عرب من بطون العرب الأوائل الذين نزحوا من الجزيرة العربية، وهم الذين بنوا القدس وسموها باسمهم «يبوس»، ثم تغير اسمها إلى «يورو سالم»؛ أي مدينة السلام، وأطلق عليها قسطنطين نفس الاسم «أورسليم».

يقول المفكر الراحل د. عبدالوهابالمسيري: «اليبوسيون» هم أحد الأقوام الكنعانية السبعة (الكنعانيون قبائل سامية نزحت منذ زمن بعيد من صحراء شبه الجزيرة العربية أو الصحراء السورية، في شكل هجرات مكثفة)، وعاشوا في المناطق المرتفعة المتاخمة للقدس، وهم الذين بنوا المدينة، ولقد ظلوا محتفظين بالمدينة مدة طويلة بعد أن نزحت إليها القبائل العبرانية، فلم تفتح إلا في عهد داود(2).

د. عمارة: العرب اليبوسيون بنوا القدس في الألف الرابع قبل الميلاد قبل عصر إبراهيم بـ22 قرناً وموسى بـ27 قرناً

جدير بالإشارة إلى أن اليبوسيين الذين حكموا القدس كانوا وثنيين غير مؤمنين، ومن هنا لا يأتي الاستشهاد بسكنهم لمدينة القدس من باب الفخر بأن العرب كانوا أول من سكن هذه المدينة، إنما يأتي في سياق دحض الافتراءات اليهودية التي تدّعي أنّ اليهود هم سكان القدس الأصليون، وأنهم أول من عمر المدينة المقدسة وسكنها، مزيِّفين بذلك فترة تاريخية مهمة تمثلت بهذه الشعوب العربية التي سبق وجودها في القدس الوجود اليهودي بأكثر من 1500 عام(3).

وقداسة المدينة تاريخياً قبل رحلة سيدنا إبراهيم عليه السلام إليها وتغربه في أرض كنعان؛ (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 71)، قال القرطبي: نجينا إبراهيم، ولوطاً، إلى أرض الشام وكانا بالعراق، وقيل: الأرض المباركة بيت المقدس؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء، وهي أيضاً كثيرة الخصب والنمو، عذبة الماء، وقال ابن عاشور: والأرض هي أرض فلسطين، ووصفها الله بأنه باركها للعالمين؛ أي للناس؛ يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن.

والمسجد الأقصى ليس سليمان من بناه، فبين وضع المسجد الحرام والمسجد الأقصى على الأرض 40 سنة، كما جاء في صحيح مسلم، وذاك قبل سليمان بقرون، قال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمرن: 96)؛ قال القرطبي: إن إبراهيم، وإسماعيل، عليهما السلام، إنما جددا ما كان أسسه غيرهما، وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بـ40 عاماً، ويجوز أن تكون الملائكة أيضاً بنته بعد بنائها البيت بإذن الله؛ وكل محتمل.

الوجود اليهودي بالقدس لم يتعد 415 عاماً في القرن العاشر قبل الميلاد على عهد داود وسليمان عليهما السلام

أما عن الوجود اليهودي في القدس فإنه لم يتعد 415 عاماً في القرن العاشر قبل الميلاد على عهد داود، وسليمان، عليهما السلام؛ أي أن هذا الوجود الطارئ المؤقت إنما حدث بعد 3 آلاف عام من عروبة مدينة القدس، وتلك اللحظة الطارئة التي كان للعبرانيين دولة في القدس هي نصف عمر وجود الدولة العربية الإسلامية في الأندلس الذي دام 8 قرون.

وبفحص مراجع أخرى (دائرة المعارف البريطانية(4)، وموسوعة الجزيرة(5)، وكتاب دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية(6)، فإن حسبنا من حكم داود وسليمان 73 عامًا، رغم إنهما موحدان مسلمان وليسا من اليهود، إلى أن سقطت الدولة الجنوبية (دولة يهوذا) التي اتخذت القدس عاصمة لها، فهي المدة من 977 ق.م إلى 586 ق.م (السبي البابلي الثاني)، فتكون المدة 391 سنة وهي أقل مما ذكره عمارة).. وإن اعتبرنا أن السبي البابلي الأول (597 ق.م) كان بمثابة انتهاء الدولة بولائها لبابل، فلم تصمد دولة يهوذا إلا 326 سنة (منذ نشأتها 923 ق.م، بعد موت سليمان وانقسام اليهود إلى دولتين).. أما الدولة الشمالية، وعاصمتها السامرة قرب نابلس، فلم تصمد إلا 202 عامًا (بين 923 ق.م إلى 721 ق.م.) فسقطت قبل الجنوبية.

إن ظن اليهود أن بقاءهم في فلسطين بضع مئات من السنين يعطي لهم حقًا تاريخيًا، فماذا عمن مكثوا فيها أكثر منهم؟ فالرومان الذين حكموها من63 ق.م إلى 636م (699 عاماً)، وماذا عن العصر الإسلامي الأول الذي دام 436 عامًا (636 إلى 1072م).

وشبّه د. عمارة ما سمي بوعد الله لإبراهيم ولذريته بامتلاك القدس مع ما حولها واحتكارها، بما ابتدعته «الصليبية الكاثوليكية» و«المسيحية الصهيونية البروتستانتية» لتجعل منها ستاراً لعورات الأطماع الإمبريالية الغربية في ثروات الشرق وخيراته، ومعاداته لدين الإسلام والمسلمين.

يقول ابن كثير: وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل يأمره أن يمد بصره، وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وبشّره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك، ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض، وهذه البشارة ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية، يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها» (رواه مسلم)(7)

وقد بين لنا القرآن الكريم بطلان انتساب اليهود إلى إبراهيم عليه السلام دينياً، فقال عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (آل عمران: 65)، ثم قال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67)، ومعظم اليهود المعاصرين لا ينتسبون إلى سلالة إسرائيل (يعقوب) بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام.

والذي عليه جمهور المفسرين هو أن عبارة التوراة (مع الفرض الجدلي أنها ليست محرفة): «في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات» (سفر التكوين 15: 18)، ليست على التأبيد، وإنما هي خاصة بالزمن الذي وعدوا فيه بذلك، ونتيجة لما كان من استجابتهم لأوامر الله وصبرهم، وذلك الجزاء لإيمانهم وتفضيلهم على أهل زمانهم سُنة إلهية في عباده، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105).

القرآن أبطل انتساب اليهود إلى دين إبراهيم.. ومعظم اليهود المعاصرين لا ينتسبون إلى سلالة يعقوب بن إسحاق

فلما انحرف بنو إسرائيل عن دين الله الحق، وارتدوا وفسدوا وأفسدوا في الأرض، لم يعد لهم حق بالتمسك بالوعد الإلهي لهم، بل كان الجزاء عليهم بما تضمنته الآيات الكريمة بلعنة الله عليهم وغضبه وعقابه بتشتيتهم في الأرض، وتسليط من يسومهم سوء العذاب عليهم إلى يوم القيامة، وضرب الذلة والمسكنة عليهم أين ما ثقفوا جزاءً لنقضهم مواثيق الله وكفرهم بآياته؛ (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 155).

والدولة المحتلة، بعد إبادة غزة وسكوت المسلمين، بدأت تصرح بلا خفاء ولا حياء أنهم الآن يسعون إلى التوسع لاحتلال «أرض الميعاد من النيل إلى الفرات»، وأطلق نتنياهو، خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة «i24» العبرية، في 13 أغسطس 2025م، تصريحات صريحة بهذا الشأن: «إنني في مهمة تاريخية وروحانية ومرتبط عاطفياً برؤية إسرائيل الكبرى».

وهذا ليس مجرد تعبير عن مشاعر شخصية، بل هو إعلان صريح عن طموحات احتلالية تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها، ومع تشجيع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لزيادة حجم «إسرائيل»، فقد بدؤوا بالقدس كلها وغزة والضفة الغربية، واقتطعوا أجزاء من سورية ولبنان، ويتطلعون إلى الأردن والعراق والسعودية ومصر، وأجزاء من تركيا، حفظ الله بلاد المسلمين جميعاً، فهل استشعرنا بعد بخطورة الأمر؟

 



_____________________

(1) محمد عمارة، القدس الشريف في الدين والتاريخ والأساطير، دار السلام.

(2) المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (10/ 278).

(3) المركز الفلسطيني للإعلام، اليبوسيون والكنعانيون، أبريل 2009.

(4) The Editors of Encyclopaedia Britannica. "Israel".  https://www.britannica.com/topic/Israel-Old-Testament-kingdom. Accessed 17 August 2025.

(5) موسوعة الجزيرة نت، القدس عبر التاريخ.. العربي الدائم واليهودي الطارئ، 31/ 1/ 2025.

(6) سعود الخلف، دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، مكتبة أضواء السلف، 2004، ص55.

(7) ابن كثير، البداية والنهاية (1/ 346).


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة