رسالة إلى طلاب الثانوية العامة

منى عبدالفتاح

24 يوليو 2025

127

تعج الكثير من البيوت والأسر بالتوتر والقلق والترقب، وسط مشاعر مفعمة بالحزن أو الفرح، مع توالي الإعلان عن نتائج شهادة الثانوية العامة في العديد من بلداننا العربية، بعد نهاية عام دراسي صاخب، وماراثون طويل من الاستذكار والجهد.

نُبارك لمن نجح، ونلتمس العذر لمن أخفق، ونشد من أزر من جانبه التوفيق، فما نتائج الثانوية العامة سوى أرقام، ليس شرطاً أن تكون معياراً للنجاح والإنجاز.

نعم، هي شهادة رئيسة ومفصلية في مسيرة التعليم قبل الجامعي، وهي تحدد إلى مدى بعيد مسار المستقبل للكثير من الطلاب والطالبات، ربما تصعد بهم إلى عنان السماء، وربما تهوي بهم إلى هوة سحيقة.

لكن الحكمة تقتضي وضع النقاط فوق الحروف، قبل أن ينزلق بعض أبنائنا وطلابنا إلى دوامة الاكتئاب، أو الانتحار، أو الوقوع أسرى لليأس والقنوط، حال عدم تحقيق ما يصبون إليه، أو الغرور والكبر، إذا ظنوا أنهم ارتقوا سلم النجاح وكفى!

إن الثانوية العامة ليست نهاية المطاف، ما هي سوى مرحلة تعليمية مؤهلة لدخول الجامعات والمعاهد العليا في أغلب الدول العربية، وهناك من استدار حولها، وحقق مراده من خلال بوابة التعليم الفني، أو التعليم المفتوح، وغير ذلك من مسارات التعليم، التي باتت توفر فرصاً نوعية للتقدم والرقي، والتدريب والتطوير.


التعليم المرن (المنزلي) حاجة مجتمعية ضرورية (1) |  Mugtama
التعليم المرن (المنزلي) حاجة مجتمعية ضرورية (1) | Mugtama
التعليم المرن (المنزلي) أحد أساليب التعليم المعتمدة عالمياً، فلماذا لا نطبقه عندنا؟
mugtama.com
×


فاشلون وعباقرة

أعرف طلاباً فشلوا في نيل شهادة الثانوية العامة، لكنهم لم يستسلموا لفشل ربما تم فرضه عليهم؛ نتيجة خلل في منظومة التصحيح والتقييم، أو لغش وتسريب للامتحانات، تفشى في بعض البلدان، بل سطروا ملاحم عظيمة في الجهد والمثابرة، لينالوا أعلى الشهادات والدرجات في تخصصات نادرة.

وهناك من نال درجات متدنية لا تتناسب مع مستواه وتفوقه العلمي منذ الصغر، لكنه أصر على إعادة اكتشاف ذاته، والسبر في أغوارها، لينحت من جديد في الصخر، ويتصدر دفعته الدراسية، فيصبح معيداً ثم أستاذاً بالجامعة، وهو من كان يبكي ليلة الثانوية!

الأمثلة كثيرة لطلاب وطالبات لم يحققوا أحلامهم وآمالهم في ماراثون الثانوية العامة، لكنهم لم يرتضوا بالفشل أو الهزيمة، فانطلقوا في دروب العلم الأخرى، لينالوا مناصب عليا، ومواقع مرموقة في كبريات الشركات العالمية.

إن توفيق الله عز وجل هو اللبنة الأولى لأي نجاح، وليس شهادة ورقية يمنحها البشر، قد تكون منصفة، وقد تكون ظالمة، دون التقليل من قيمتها كمؤهل تعليمي، لكن الفيصل، هو الاستمرارية في تحصيل العلم، وتطوير القدرات، وصقل المهارات، واستثمار المواهب.

ربما اللحظة مناسبة، لأذكركم بأن مؤسس موقع التواصل الشهير فيسبوك مارك زوكربيرغ لم يُكمل دراسته الجامعية، وأن ستيف غوبز الذي واجه صعوبات دراسية، أصبح رئيساً لعملاق التكنولوجيا «آبل»، وهناك إينجفار كامبراد الذي لم يلتحق بالجامعة من الأساس، بات مؤسساً لشركة الأثاث العملاقة (IKEA)، وهو أحد أثرياء العالم، وبيل غيتس الذي لم يكمل دراسته بجامعة هارفارد، ابتكر نظام «ويندوز» للبرمجة وأسس أكبر شركة برمجيات في العالم «مايكروسوفت»، ليصبح أحد أثرياء كوكب الأرض.

وتوماس أديسون الذي طرد من المدرسة في الصفوف الأولى واتهم بالتخلف العقلي هو مخترع المصباح الكهربائي، وأينشتاين الذي رسب في امتحانات المعهد العالي للتكنولوجيا هو صاحب النظرية النسبية، ومايكل فارادي الذي عانى مشكلات في النطق توصل إلى اختراع «الدينمو»، والأخوان رايت اللذان اخترعا أول طائرة كانا عاملين ميكانيكيين.


نحو مشروع تعليمي موازٍ  لصناعة النصر |  Mugtama
نحو مشروع تعليمي موازٍ لصناعة النصر | Mugtama
سلاح التعليم هو سلاح إستراتيجي لا يمكن لنا التفريط فيه
mugtama.com
×


بداية للنجاح

إن الفشل أو الإخفاق في نيل المراد هو الخطوة الأولى نحو النجاح، وهو البداية للتصويب والتقويم، مع ضرورة المراجعة، وتغيير الإستراتيجيات، والاستفادة من دروس الماضي، ففي أحيان كثيرة، يكون الفشل نعمة لا نقمة.

تحت عنوان «لا تخجلوا من الفشل.. فهو مفتاح النجاح»، يقول الأكاديمي السوري محمد خير ندمان: «لنفترض يوماً ما أن العلم قام بحل جميع مشكلاتنا، دعونا نتخيل أننا نتمتع بصحة جيدة، ونعيش إلى أجل غير مسمى، وتعمل أدمغتنا بفضل بعض التحسينات مثل الكمبيوتر، قد يكون ذلك شيئاً مثيراً للاهتمام، لكن لن يكون هناك ما نعيش من أجله، بعبارة أخرى، سيختفي الطموح مع اختفاء إمكانية الفشل، وسنكون كاملين جسدياً وأمواتاً من الناحية الروحية».

يتابع: «في نهاية المطاف، قدرتنا على الفشل تجعلنا ما نحن عليه، إن وجود الفشل هو الذي يخلق فينا الطموح أساساً، الفشل، والخوف من الفشل، وتعلم كيفية تجنبه في المستقبل، كلها جزء من عملية يتم من خلالها تحديد شكل البشرية ومصيرها»، بحسب صحيفة «الشرق الأوسط».

النهوض من جديد

يا طلاب الثانوية، لا تجلدوا ذواتكم، واحذروا من اليأس وجلد الذات، فإن 94% ممن يعانون من جلد الذات يشعرون بعدم الأمان، و82% يعانون من قلق مزمن، وفق دراسات علمية حديثة.

إن النفس البشرية في حاجة للتعثر، لكي تنهض من جديد، وفي حاجة للفشل أحياناً لكي تتحدى نفسها، وتنقب عن النجاح ثانياً، بل إن الفشل هو سر النجاح والحياة، وسعادة الإنسان تكمن في تعزيز دوافع البحث عن الذات، وتحقيق الحلم والطموح، ولو تأجل بعض الوقت.

يقول علماء التفسير: إن أكثر من مائتي آية، قرن الله فيها العلم بالعمل؛ لأن العلم بحد ذاته ليس غاية، إنما هو وسيلة لأداء وظيفة في الحياة، فالعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، والناس يحاسبون على أعمالهم، وما العلم إلا من أجل العمل الصالح، فحجم الإنسان عند الله بحجم عمله، قال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (الأنعام: 123).

هنيئاً لمن نجح، فواصِل وتعلّم وتدرّب، واكتسب المهارات اللازمة لسوق العمل، أنت في بداية الطريق، وشهادتك لبنة أولى نحو بناء مستقبلك، وتحقيق ذاتك.

ولمن لم يحالفه التوفيق، انفض عنك غبار الإحباط واليأس، وألق بالفشل وراء ظهرك، وجدّد ثقتك في الله عز وجل، وحفّز عقلك نحو صناعة النجاح من جديد، وأعد اكتشاف ذاتك، فالممكن أكثر من المستحيل، وسقوط الإنسان ليس فشلاً، ولكن الفشل أن يبقى حيث يسقط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً» (رواه أحمد).


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة