نحو مشروع تعليمي موازٍ لصناعة النصر

لا يخفى على أحد المأزق الحضاري العميق الذي تعيشه أمتنا في اللحظة الراهنة، وهو ما يستدعي التفكير في كل الطرق الممكنة التي قد تساعدنا في الخروج من هذا المأزق.

في هذا السياق يبرز التعليم كواحد من أهم الطرق الاستراتيجية والاستثمار طويل الأمد الذي يمكنه القيام بهذه النقلة الحضارية المنشودة.. لكن التعليم السائد في معظم دولنا العربية إن لم يكن كلها الحكومي منه والخاص لا يحقق هذه النقلة، ولا نحتاج لكثير جهد أو ذكاء حتى نقرر مطمئنين إنه لن يحققها، فهي مناهج مرتبطة إما ببعض العلوم التجريبية والرياضية، وغالبا هي مناهج منقولة لا يوجد فيها مساحة للإبداع، وغالبا ما يتم تدريسها بطرق تقليدية.

وإما علوم إنسانية لا تصلح مطلقا لصناعة النصر الذي ننتظره والنقلة الحضارية التي ننشدها؛ فالعلوم الإنسانية ببلادنا تحمل وصمة العلم الذي لا ينفع، فالتاريخ والجغرافيا والفلسفة وكل هذه العلوم يتم النظر إليها بناء على مدى الاحتياج إليها في سوق العمل، وباعتباره احتياجا منخفضا، تم تقييمها بأنها علوم "منخفضة القيمة".

حتى المضمون في مقررات اللغة العربية تم حشوه بمضامين شبه منقولة لا تنتج جيلا يصنع نصرا، ومقررات العلوم الإسلامية أصبحت مقررات أكثر ما ينطبق عليها قوله تعالى (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)، فهي مقررات تجعل القرآن عضين، وفي تفسير "ابن عباس" لمعنى "عضين"، أنهم الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.

والمتأمل لمقررات التربية الدينية يجدها تهتم ببعض أجزاء الدين دون بعض، ناهيك عن أسلوب تدريسها المزري واعتبارها مقرر ثانوي، ونحو ذلك من أمور، حتى فقدت مادة التربية الإسلامية أي فاعلية في تحريك قلوب وعقول الطلاب.


اقرأ أيضاً: صناعة مناهج العزة


أسس مختلفة

تبدو إذن الحاجة ماسة جدا لبديل أو فلنقل على وجه الدقة، لتعليم مواز ومكمل لما يتم طرحه بشكل حكومي أو خاص.. فالبديل الكامل صعب ومكلف، وإنما يمكننا الحديث عن تعليم مواز يسد أهم الثغرات، والأهم يرفع مستوى الوعي ويقوم بتعديل وجهته حتى يقترب من قيم النصر.

نريد تعليما يبدأ من رفع قيمة العلم والتعلم (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة) بحيث يتحول التعلم هنا لشغف، وبحيث يشعر الطالب أن التعليم هو الأداة التي سوف يستخدمها لتغيير حال أمته.. وهذا يعني أننا أمام طالب وإن كان صغيرا في العمر إلا إنه مستبصر بأحوال أمته، ولكنه بدلا من الشعور باليأس والإحباط أو التجاهل، يسعى بجدية لامتلاك الأدوات والتقنيات التي تحقق له النصر ولو بعد حين وعلى رأسها تقنية العلم.

إذن يمكننا القول، إن الأساس الأول، هو الإيمان بالأهمية المطلقة للعلم وأن هذا الإخلاص في طلب العلم هو طريق من طرق الجنة.

أما الأساس الثاني، فهو الأمل الذي يصنعه التعلم ويبثه في نفوس أصحابه في مواجهة مرحلة من أسوأ مراحل التاريخ التي تعيشها أمتنا.

أما الأساس الثالث، فهو أن هذا التعليم الموازي هو بالأساس منهج حياتي تطبيقي يربط بين العلم والعمل، والنظرية والتطبيق في وحدة واحدة، لذلك كان النبي صلى عليه وسلم يستعيذ من علم لا ينفع، ويسأل الله سبحانه وتعالى كل صباح علما نافعا، فالعلم الذي ننشده هو علم يسعى لتغيير الواقع وإصلاحه وتغيير أنماطه الراكدة.

أما الأساس الرابع، فهو إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية وفي القلب منها العلوم الدينية فهذه العلوم هي التي سوف تقود التغيير.. على سبيل المثال مقرر التاريخ والقضية الفلسطينية بدءا من العصور القديمة وحتى هذه اللحظة مقرر بالغ الحيوية.. حاسم في إبقاء الصراع حيا حتى لو كانت هناك جولة من هزيمة أو جولة من محنة.



الهدف هنا أن يستطيع الطالب الخروج من أسر صورة اللحظة الراهنة الغارقة بالدماء والخزلان لرحابة الصورة التاريخية الواسعة لقيم النصر والهزيمة التي مرت بها أمتنا وفي فلسطين تحديدا.

أما الحديث عن الطموحات المنشودة من مقرر التربية الإسلامية فهي طموحات بالغة الاتساع، فالفهم الصحيح للدين وفلسفته لكافة مناحي الحياة هو البوصلة الشخصية التي يهدف التعليم الموازي أن يمتلكها كل طالب.. فيعرف الحلال والحرام، وأهم الأسس التي تتم مراعاتها عند الحكم على الشيء، وأهم مبادئ العقيدة الإسلامية، والقيم الخلقية التي جاء بها القرآن وشرحتها السنة، وهو في كل ذلك يسعى إلى التطبيق العملي لما يتعلمه.

ولابد من المرور على القضايا الساخنة التي تشغل الرأي العام فلا يمكن تجاهلها بحيث يتم التعامل مع القضايا القديمة فقط كالتعليم التقليدي الذي انفصل عن سخونة اللحظة الراهنة، وهو ما نحتاجه في التعليم الموازي بشدة.. أن نعلم الطالب كيف يقرأ ما يحدث على الأرض من قضايا ساخنة أو شائكة قراءة دينية صحيحة.


اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي والتعليم.. الأخطار والفرص



سلاح إستراتيجي 

هذا المشروع التعليمي كبير جدا، وهو بحاجة بالتأكيد لدراسة دقيقة حتى يمكننا تحديد الشريحة المستهدفة أولا وفق فقه الأولويات ثم التي تليها، حتى نستطيع أن نستثمر الطيف الواسع للأطفال والمراهقين والشباب بالتدريج.

ويمكن البدء بعمل منصات إلكترونية تعليمية تقدم محتوى تعليمي يمزج بين العلوم التجريبية الرائجة وبين العلوم الإنسانية التي تقود الإنسان نحو النصر وقيمه.

ومن أهم الأمور التي قد تمثل عنصر جذب لمثل هذه المنصات الإلكترونية أن يتم شرح المناهج التعليمية الحكومية التقليدية فيها بطرق غير تقليدية جذابة، خاصة مناهج العلوم التجريبية الصعبة، فيدخل الطلاب وأولياء الأمور للمنصات بدافع تحقيق مصلحة شخصية ثم يتم جذبهم بعد ذلك ودمجهم بشكل ودي تماما لمفهوم جديد في التعليم.

ومن الممكن أيضا عمل أكاديميات تعليمية صغيرة بأجر رمزي، على غرار أكاديميات تدبر القرآن الكريم التي حققت نجاحا لافتا في السنوات الأخيرة، ولكن بصورة أكثر شمولا.

ويمكن عمل أكاديميات صيفية باعتبار أنه لا يمكن في المراحل الأولى أن يحل التعليم الموازي محل التعليم النظامي التقليدي، لكن بإمكانه استغلال الصيف في إصلاح مناهج تفكير الطلاب وضبط بوصلتهم الشخصية.


اقرأ أيضاً: دور التعليم في تحقيق النهضة اليابانية


هذه أفكار تصلح للبدء والتأسيس باعتبار سهولة التنفيذ والبساطة النسبية للتكلفة، وإلا فهناك أفكار أكثر احترافية كإنشاء قناة تليفزيونية أو إذاعية أو إنشاء مدارس إسلامية بنظام تعليمي خاص لو سمحت النظم السياسية بذلك، وعلى مثل هذا النحو يمكن عمل أكاديميات فئوية متخصصة، فبعضها مخصص للشباب لتعليم مهارات القيادة مثلا، وبعضها لشباب الباحثين، وبعضها مخصص للمعلمين، بحيث يتم دمج الأفكار الجديدة في المنظومة القائمة بالفعل.

كانت هذه مجرد نماذج عملية لما يمكن عمله، وإلا فالأمر متسع وهو يستحق العمل والتفكير في كيفية استثماره، فسلاح التعليم هو سلاح استراتيجي لا يمكن لنا التفريط فيه، ونحن نفكر في أي خطوة تقربنا من النصر وتبعد عنا شبح الهزيمة والتبعية.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة