القرآن وتجديد المجتمع (3)
سؤال القرآن.. المفهوم والمشروعية
اتصالًا بما سبق في القول بالقرآن وتجديد المجتمع.، حدود الله، والقرآن
وتجديد المجتمع.، أسباب النزول، نصل إلى القول الثالث في القرآن وتجديد المجتمع.، سؤال
القرآن.
ونقصد بهذا القول من حيث المبدأ أن القرآن لا يمنح الناس هداياته وبصائره
وأنواره وتذكرته ونفعه دون أن يسألوه، فالقرآن خصب ولا يخلق على كثرة الرد، ولكنه
لا يعطي لمستغنٍ، وإنما يعطي ويفيض لمن يطرق بابه ويلح في الطرق من مداخل وأبواب
متنوعة بتنوع الاحتياجات الإنسانية والاجتماعية، ويتجدد عطاء القرآن بتجدد حركة
الإنسان وصيرورتها المشروطة بحسن السؤال للقرآن وقيمته وجدارته.
إن عطاءات القرآن لا تجمد عند مرحلة تاريخية، ولا مرحلة زمنية، ولا فهم
إنساني محدد بمكان وسياق، ولكنه دائم الخير والبركة والعطاء والتجدد، في كل تاريخ
للإنسان وفي كل أزمنته؛ إلا أنه لا يمكن تحصيل هذه المنافع القرآنية في النفس
والمجتمع والعالم دون تجديد معرفة القرآن.
مشروعية سؤال القرآن
أوضح القرآن في غير موضع أن المستفيدين بهديه هم الذين يعقلون آياته وما
يُصَرِّفُهُ الله تعالى منها في النفس والكون، وأن الذين يُحصَّلون أنواره لتخرجهم
من الظلمات إلى النور هم أولئك الذين يتفكرون ويبحثون في تلك الآيات للوقوف على
معانيها الظاهرة والكامنة.
وفي ذلك ينعى القرآن على أولئك الذين أغلقوا عقولهم عن سؤال القرآن وكان
يقرعهم ويوبخهم بقوله: (أَفَلَا
تَعْقِلُونَ) (وردت في غير موضع)، بينما يؤكد القرآن أن آياته وفوائده
العظمى تتطلب التعقل والفهم والسؤال قال تعالى: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 242)، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (النور: 61)، وهكذا فالقرآن
يرجو أن يتفحص الناس آياته وبيناته وأمثلته التي يصرفها لهم، بينما يُسجل توبيخًا
ولومًا لمن أغلقوا العقول وأبواب المعرفة لهذه الآيات ومنعوا عقولهم عن التفكر
والتأمل فيها فحرموا نفعه وخيره وبركته.
وفي ذلك أيضًا يضع القرآن قاعدة للتعامل مع آياته ميزانها: العلم والمعرفة
والتفكر والبحث، قال تعالى: (أَفَمَن
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الرعد: 19)، والمعنى: كما يقول
الطبري: إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول.
اكتساب المعرفة القرآنية.. تساؤلات رئيسة
مما يترتب على قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، فإن وجوب معرفة القرآن يترتب عليه واجب عقلي هو سؤال القرآن، فالسؤال نصف العلم، والنصف الآخر الإجابة أو المعرفة المكتسبة المترتبة على هذا السؤال، ونقدم هنا إطارًا من التساؤلات تمثل فيما نرى الطريق لاكتساب معرفة القرآن، انظر الشكل التالي:
تمثل هذه التساؤلات: ما؟ وماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ مصدرًا لاكتساب المعرفة
القرآنية التي تمكن الفرد والمجتمع من الانتفاع بخيرات القرآن وهداياته وتصل بهما
إلى الصراط المستقيم فرديًا وجماعيًا، معنويًا وماديًا.
فسؤال: ما القرآن؟ يتضمن الإجابة عن ماهيته: فهو كتاب من الله تعالى موجه
إلى الإنسان –المستخلف على الأرض- مجموع في بياناته وآياته هدايات الإنسان على
الأرض، وهذه المرجعية الإلهية للإنسان تجعل من العقل العامل الحاسم في النظر فيه
وفي أحقيته المرجعية، إذ لا يفصل بين جدارة مرجعية القرآن والمرجعيات الوضعية سوى
النظر العقلي والتأمل الفاحص والإدراك العقلي الواعي للوعي بالملاءمة والمناسبة
لمعارف القرآن لحركة الإنسان ونشاطه في الأرض.
فماهية القرآن هي كونه كتاب هداية
للعقل والوجدان والنفس والمجتمع، ولهذا عُرف هذا الكتاب بمسمى «القرآن»؛ ومقتضى
ذلك أن يقوم الإنسان بقراءته، إذ القراءة أُولى نوافذ الوعي به، ولهذا أُمِرَ
بجمعه في كتاب ليكون محفوظًا لكل الإنسان حتى نهاية المصير، فيُرجع إليه للعلم
والتوجيه، أو للحكم والميزان، أو عند التقويم والمراجعة، وبهذا تتحدد غايات ومقاصد
القرآن في تذليل الحياة الدنيا، وتهيئة المعاش المُزكى للإنسان، وضمن ذلك بناء
مدافعات كل ما يَدخل إلى هذه الحياة والمعاش من معوقات وغفلات تعترض الحياة الطيبة
المنشودة في اتباع هذا القرآن العظيم.
أما سؤال: ماذا يقول القرآن؟ فيعني الوقوف على ما يقدمه القرآن من أفكار
أساسية وميادين عمل للإنسان، ومواضع اتصال القرآن بالمجتمع، وموقف القرآن من
إشكالات الحياة الاجتماعية ومنظوره لمعالجتها ومحددات هذا المنظور، بمعنى آخر:
البحث في قضايا القرآن التي تناولها والأولويات التي ناقشها لبناء الاستخلاف
والعمران على طريقة راشدة أو الطريقة المثلى.
إن التعرف على مضمون «ماذا قال القرآن» الخطوة الأولى لتحقيق الاتباع
المنشود لأوامره والوقوف عند نواهيه، والتعرف على إلزاماته وتكاليفه، وإدراك
تفضيلاته وترجيحاته، والوعي بأولوياته، واتجاهاته الفكرية والاجتماعية ناحية
الإنسان والكون، بما يفيد في بناء إطار العمران على أسس من التزكية والرشد.
أما سؤال الكيف: كيف يقول القرآن؟ فغايته أن يبين بوضوح معرفة الهيئة
الاجتماعية للتغيير المنشود والطريقة أو الشاكلة القرآنية للحالة التي يرسمها
القرآن للفرد والمجتمع باعتبارها الحالة المثالية لهما.
حيث إن الانحراف عن هذه الشاكلة القرآنية أو الهيئة القرآنية هو انحراف عن
السوية الإنسانية في المقام الأول، فضلًا عن كونها في ذات الوقت انحرافاً عن
الطريقة القرآنية قال تعالى: (وَأَن
لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) (الجن: 16)،
اقرأ على سبيل المثال: ما يتعلق بشكل الأسرة وهيئتها التي قدمها القرآن، التي تقوم
أول ما تقوم على مرتكز الإيمان، ثم على التواصي بين أفرادها، وحقوق البنوة، وحقوق
الوالدية، والواجبات المتبادلة في ضوء هذه الحقوق، ثم محددات ضمان عمل الأسرة في
المجتمع، وطرق حمايتها من التفكك، ودفع المجتمع إلى مساعدة أفرادها حين الزلل
والخلافات.
ويزخر القرآن بالآيات البينات لرسم الحالة التي يجب أن تكون عليها الأسرة
المسلمة في البناء والاستدامة وحل الخلافات وطرق تحسين عملها وتطويره في الواقع، وإن
الانحرافات التي نشاهدها في الأسرة المسلمة اليوم إنما ترجع إلى عدم امتثالها
للهيئة التي رسمها القرآن لها، وانجذابها إلى النواهي التي نهى القرآن عنها.
أما سؤال «لماذا؟» فهو يبحث عن العلل التي تكمن وراء هذه البينات القرآنية،
والعلة في البيان القرآني مقصود القرآن في تعاليمه وتشريعاته، وإذا غابت معرفة
العلة عن الحكم أو التوجيه يكون التأثير ضعيفًا في النفس والمجتمع، ويكون مسار
التغيير ضعيفًا حيث يتحول الفرد أو المجتمع الذي يتعامل مع القرآن دون الوعي
بمقاصد وعلل آيات القرآن وبيناته إلى مجرد وعاء يحمل هذه الآيات فلا يفيد بها ولا
يستفيد.
وقد حرص القرآن في تعاليمه وتوجيهاته وأحكامه وحدوه أن ينير الطريق للعقل
المسلم بأن أوضح غاية هذه التعاليم والإرشادات سواء كانت بالأمر أو النهي، ومن
ذلك: قوله تعالى: (وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت:
45)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ
وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
وَالْمُنكَرِ) (النور: 21)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:
183)، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 179).
إن وضوح هذه التساؤلات الأربعة في الذهن الإسلامي والعقل الجمعي للأمة يمثل
مدخلًا رئيسًا لاستعادة حضور القرآن في الواقع الفردي والواقع الاجتماعي للأمة،
بما يحقق المقصد التغييري الأعلى للقرآن في هذا الواقع وهو إخراج الناس من الظلمات
إلى النور؛ (كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم:1)، وقوله
«تُخْرِجَ» فعل مضارع أي متجدد ومستمر، والظلمات هنا جاءت بصيغة الجمع، ويقصد بها
كل ظلمة أو جهل أو غفلة يمكن أن تحيط بالإنسان سواء كان ذلك وقت النزول الأول
للقرآن إلى الأرض، أو في رحلة الإنسان على الأرض إلى الله تعالى إلى يوم القيامة،
والقرآن قادر على هذا الإخراج للناس من كل ظلمة وغفلة إلى النور أي إلى نور القرآن
وعلمه وهداياته الذي هو صراط الله تعالى في كل مكان وفي كل وقت.