القرآن وتجديد المجتمع

إن الإقبال الجماهيري الإسلامي
الواسع على القراءة الصوتية للقرآن في شهر رمضان، بالإضافة إلى الحفز الثقافي
والدعوي لتحقيق مقصد التلاوة أو حقها بالتطوير ناحية التلاوة المعرفية –كما أشرنا
في المقالة السابقة- يُعدان مدخلا مهمًا لتحقيق وظيفة القرآن التجديدية في
المجتمع. وإن ذكر الله –كما يذكر القرطبي- يكون بالتزام أوامره وطاعته "فمن
لم يطعه لم يذكره، وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن". ومن ثم يأتي
تعانق هذا المفهوم لقراءة القرآن، بالتزام خط الاتباع لحدود الله وأوامره
وتوجيهاته، مع غرض الصوم الأساس وهو التقوى: قال تعالى في نهاية آية تشريعات
الصوم: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) (البقرة:187). فالالتزام
بحدود الله يأتي نتيجة للتقوى، والتقوى كذلك ثمرة لالتزام حدود الله وأحكامه.
أخلاق القرآن..
بين التعليم النظري والنموذج العملي
التقوى
التقوى من الوقاية: أي: حفظ الشيء
مما يؤذيه ويضره. والتقوى جعل النفس في وقاية مما يُخاف، وصارت التقوى في تعارف
الشرع حفِظ النفس عما يؤثِمُ، وذلك بترك المحظور، ويتمُ ذلك بترك بعض المبُاحات.
والتقوى، أيضا، بمعنى: الحماية والحفظ، والتمسك بطاعة الله، والتزام تلك الطاعة،
والحرص والخوف من تجاوز حدود الله وأحكامه. فالتقوى إذن: الدفع لكل ما يؤذي وتجنب
الضرر، والوقاية من كل إصابة حاضرة أو متوقعة، والحماية الواجبة من الآثام
والذنوب، وحفظ عناصر القوة في الإيمان وغيره، ومما يجب فيه التقوى.
وإن المسلم لأكثر
ما يكون بتحقيق التقوى في شروط الصوم الظاهرة بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر
المفطرات منذ طلوع الفجر وحتى غروب الشمس. وهو أمر يقوم به الجميع اتقاءً لصحة
الصوم، وتنفيذا لأحكام القرآن وحدوده.
لكن حتى يتحقق تجديد المجتمع المسلم
برعاية القرآن وفي ظله الظليل، فإن حدود التقوى يجب أن تتسع لتشمل الظاهر والباطن
الفردي والمجتمعي، فالحدود والأحكام والأوامر والتوجيهات القرآنية تحتاج إلى مثل
هذا الانضباط في الصوم من حيث المعرفة وتوقي سبل التطبيق وذلك حتى يكون المسلم
ملتزما بذكر الله في نفسه وفي نظامه المجتمعي كله.
حدود
الله
حدود
الله هي المتصل القرآني الثاني للمسلم في رمضان: وقيل في حدود الله
أنها: محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة، وصفات مضبوطة. وقيل
بأنها: المحارم التي ميزها من الحلال المطلق فحددها بنعوتها وصفاتها وعرفها عباده.
وقيل أيضًا بأنها: فصول طاعته التي جعلها فاصلة بينها وبين معصيته.
خلاصة
مفهوم حدود الله: أنها أحكام الشرع وفروضه التي تمنع الناس أن يتجاوزوا إلى معصية
الله ورسوله. بمعنى: هي تلك البينات التي جاء بها القرآن من أجل أن يتبين الناس
"الصراط المستقيم" الذي يقف عند أحكام الله وفروضه فيتحروه للاستقامة..
و"الصراط المعوج" الذي يتجاوز أصحابه هذه الحدود والفروض والأحكام
فيبتعدوا عنه ويجتنبوه ويتقوه. فالحدود كما يبينها القرآن حواجز بين نقيضين: طاعة
الله ورسوله، ومعصية الله ورسوله. وبين العدل وبين الظلم، وبين الجنة وبين النار،
وبين التقوى وبين الفجور وبين العلم وبين الجهل. لهذا جاء التحذير واضحًا في تلك
الحدود: من النهي بالقرب مطلقًا، أو التجاوز إليها اعتداء: قال تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَقْرَبُوهَا) (البقرة:187). أي
لا تتعرضوا لها بالتغيير. و(تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا) (البقرة:229) أي لا تتجاوزوا عنها. إن التقوى هي
المانعة من الاقتراب من حدود الله ومن تجاوزها بمعصيته فيها بالتبديل أو التغيير
أو الإهمال والغفلة عنها.
التدبر.. حين ترى
القرآن جديدًا في كل مرة تقرؤه
فالتقوى التي يلتزمها المسلم والتي
هي ثمرة الصوم هي الحاجز عند الشبهات والتي تمنع تارة من الاقتراب منها، وفي حالة
الاقتراب تنهى عن التجاوز إليها وتسميه اعتداء. كما في الشكل المبين.
لذلك فإن الله تعالى يمدح أولئك
الذين التزموا التكليفات والتشريعات والأوامر ولم يقتربوا من حد الشبهات المؤدي
للوقوع في الحدود والاعتداء عليها، وقال الله فيهم: (وَالْحَافِظُونَ
لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة 112). (وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) (البقرة:230). ثم توعد جل وعلا الذين يقعون
ويتجاوزون منطقة الحدود ويدخلون إلى الشبهات ثم يتجاوزونها إلى الوقوع والاعتداء
على أحكام الله وتشريعاته فيقول جل شأنه: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (الطلاق:1) و(وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)
(النساء: 14).
الوعي بحدود الله وتجديد المجتمع
إن الوعي بحدود الله بعث لإحياء مهمة
القرآن في واقع المسلمين من جديد، ويقوم
هذا الوعي ببيان
المناطق التي تعمل فيها جوارح المسلم وطبيعة العمل ومحدداته وشروطه، وكذلك بيان
المناطق التي يجب ألا تعمل فيها جوارح المسلم ولا تقترب منها أو تصل إليها.
إن تعليم الحدود (حدود الله) عمل
تربوي تعليمي بامتياز، وكانت مهمة النبوة هي القيام بهذه العملية
التربوية. قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (آل
عمران:164).
فهذه المهمات / الوظائف الثلاث تقوم بعملية التعليم والتجديد وهي كالتالي:
1- تلاوة الآيات: تبليغ التكليفات.
2- والتزكية: تهيئة النفس لتلقي
التكليفات.
3- ويعلمهم: كيفية أداء التكليفات
والالتزام بحدود الله.
4- المخرجات: الشاكلة القرآنية.
فكان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، المعلم الأول لهذه الأمة، والقرآن هو مادة
هذا التعلم، والتعليم يتضمن (معرفة – وتزكية – وتوجيه وإرشاد) ثم (تقويم وإصلاح).
والمخرج لتلك العملية هو الشاكلة القرآنية للنفس المسلمة.
وإن المصلحين والمفكرين والدعاة الجادين، يجب أن يتمثلوا دوائر عمل الوظائف
التربوية النبوية في الأمة:
1-بالتهيئة / التزكية لاستقبال البينات.
2- التعريف/ البينات من الحدود
والأحكام. 3- وتعليم الكيفية التي تتم بها هذه البينات.
إن هذه المهمة لا يمكنها أن تتم دون الحضور الحقيقي للقرآن- وليس فقط الحضور
الصوتي- أي لابد أن يُستحضر القرآن مثل طبيعة حضوره الأول في الأمة، أي يكون
مداراً لتربيتها وتعليمها، لا كلامًا ولا بلاغة ولا نحوًا ولا صرفًا ولا صوتًا
فقط. أي لابد أن نستدعي تنزل القرآن من جديد مثل تنزله الأول على الأمة، وهذا يأتي
بإزالة الصوارف والحجب والحواجز التي وضعت بين المسلمين وبينه، لقد كان الصحابة
يستمعون إلى (أ) ترتيل النبي (ب) فترق القلوب وتتفتح العقول بالتلاوة الزكية (ج)
ثم يتعلمون ما تحتويه الآيات ومقصودها وماذا يجب عليهم فيها (د) ثم ينطلقون إلى
العمل وإصلاح الأرض ومن عليها.
وعن طريق هذه العملية تتكون "الشاكلة القرآنية" للنفس المسلمة، التي يجب
أن يتم إعادة بنائها من جديد في الأمة، فتتأسس البنية التحتية للإسلام، ويستطيع
أبناؤه أن يدركوا مقاصده الأساسية في هداية الناس، وأن يعملوا لتحقيق هذه المقاصد.
وتتحقق الشاكلة القرآنية للفرد والمجتمع المسلم.