سباق «الترند» على جثة القيم!

كريم الدسوقي

22 سبتمبر 2025

48

في غضون ساعات قليلة من نشر مقطع فيديو لإحدى مؤثرات «سناب شات»، تحول فضاء التواصل الرقمي إلى شرارة نقاش اجتماعي يعكس النقاش حول حرية التعبير وحدودها الشرعية والقانونية، ودور الرقابة المجتمعية في تحصين هذه الحدود في مقابل انتهاكها من مشاهير يفترض فيهم صونها.

هكذا انطلق في السعودية ترند «#مشاعل_القحطاني_والذوق_العام»، بعد انتشار محتوى للفتاة يتضمن مقاطع فيديو ذات إيحاءات خادشة للحياء، وحديثاً صريحاً عن علاقات شخصية؛ ما اعتبرته الأغلبية مخالفاً للقيم الإسلامية ولائحة المحافظة على الذوق العام في المملكة.

الجدل حول محتوى «الترند» ليس وليد اللحظة؛ بل يمثل تكراراً لسجال مشابه جرى في عدة دول عربية أخرى، بينها مصر، التي أثارت فيها الفنانة روبي عام 2019م موجة انتقادات بسبب أداء خادش للحياء خلال مهرجان القاهرة السينمائي؛ ما أطلق حملات رقمية تطالب بمنع حفلاتها، باعتبارها تهديداً للأخلاق.

وفي تونس، تعرضت مؤثرة مثل ليلى بن علي في عام 2024م لحملة مشابهة بعد بث مباشر يروج لمفاهيم حرية الفرد بطريقة أثارت جدلاً حول مساسها بالثوابت الشرعية، ما أدى إلى إغلاق حسابها مؤقتاً.

صراع رقمي

هذه الحالات تكشف نمطاً عربياً متكرراً مفاده أن المنصات الرقمية أصبحت ساحة صراع بين الهوية الثقافية والعولمة، حيث يتحول الجمهور إلى حارس للقيم بينما يؤدي المؤثرون دور المهدد لتلك القيم في انقلاب للأدوار تشهده مجتمعاتنا منذ تصاعد استخدام منصات التواصل.

بدأ «ترند» مشاعل القحطاني بالسعودية في مطلع سبتمبر الجاري، مدفوعاً بحملة المحافظة على الذوق العام التي تعنى بمكافحة المحتوى المخالف للأخلاق، محولاً نقاشاً فردياً إلى قضية جماعية في سياق يشهد حملات توعوية للحفاظ على الهوية وسط انتشار المحتوى غير الأخلاقي.

هذا الواقع يعكس تحدياً متصاعداً في عموم البلدان العربية والإسلامية، حيث بات الفضاء الرقمي مرآة لتوترات ثقافية يشعلها مؤثرون ومؤثرات عبر منصات التواصل، وسط مطالبات بإعادة تعريف الحدود الشرعية في عصر الشاشات المفتوحة.

ومن هذه الخلفية جاء ترند «#مشاعل_القحطاني_والذوق_العام» كعاصفة رقمية، حيث تداول المعارضون لمحتوى الفتاة السعودية عبارات مثل «كفى تفاهة» و«حماية الذوق العام» و«القبض الفوري»، في إشارة إلى ضرورة محاسبة الفتاة قانونياً، وسط نقاش مصحوب بانتقادات لسلوكيات تروج لها مشاعل عبر «سناب شات»؛ ما دفع الهاشتاغ إلى قائمة الترندات السعودية المتصدرة خلال 48 ساعة.

الذوق العام

بدأت الحملة الغاضبة من محتوى الفتاة السعودية بتعليقات فردية غاضبة، ثم تصاعد إلى حملة جماعية تربط المحتوى بلائحة الذوق العام في المملكة، التي تحظر السلوكيات المخالفة للأخلاق العامة، ومن أبرز تلك الأصوات كان حساب المغرد «آيس المملكة»، الذي دعا إلى وعي أكبر بتأثير مثل هذا النوع من المحتوى على الشباب، مغرداً: «بعض الناس بـ«السوشيال ميديا» يطلعون يحكون عن علاقات غلط ويشجعون على الرذيلة (..) ترى الموضوع خطير ويأثر على عقولهم، فلازم الأهل ينتبهون».

أما حساب «وش السالفة» فقد ركز على ضرورة حماية فئة المراهقين على وجه الخصوص، محذرًا: «المشكلة اللي يتابعهم بنات صغار ومراهقات! الموضوع خطير ويخبص عقول البنات».

ومع تصاعد هذا الجدل، تفرعت التيارات النقاشية إلى آراء تعكس توحداً نفسياً واجتماعياً ضد انتشار المحتوى الهابط، إذ تبنت التفاعلات اتجاهاً غاضباً يطالب بإيقاف المحتوى الهابط وتفعيل العقوبات، معتبرة أن مثل هذا المحتوى يشوه صورة المرأة السعودية ويؤثر سلباً على الأجيال الشابة.

وفي خضم هذا الجدل، برز صوت الخبراء كمرشد للتوازن بين الحرية والمسؤولية، ومنهم الإعلامي فيصل بن حثلين، الذي وصف مثل هذا المحتوى الذي تقدمه القحطاني بأنه يقدم التوافه كقدوات بينما يهمل العلماء، معتبراً ذلك ظلماً للأجيال الشابة، ومطالباً بتقدير يعتمد على الإنجازات لا المتابعين.

محتوى مخالف

هكذا عكست النقاشات توحداً آخر على المستوى النفسي ضد من يرى في الفضاء الرقمي متنفساً للضغوط الاجتماعية حتى ولو كان هذا المتنفس تهديداً للقيم الإسلامية، وسط دعوات إلى الغضب وتنظيم دفاع جماعي عن الهوية ضد الحرية الشخصية الشيطانية، على حد تعبير حساب «كنوز العرب».

ويرتبط انتشار «الترند» اجتماعياً بحملة المحافظة على الذوق العام في السعودية وتقييمها، خاصة بعد تسجيل آلاف الشكاوى ضد المحتوى المخالف سنوياً، حسبما أورد تقرير المحتوى الرقمي لوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية، الذي سجل إزالة أكثر من 58 ألف محتوى مخالف للنظم خلال عام 2022م فقط؛ ما عزز الاتجاه المنتقد وحوله إلى نقاش مجتمعي يعزز من فكرة تحول الجمهور إلى سلطة رقابية.

واستدعى هذا الانتشار استكشافا لآراء الفقهاء التي تبين الإطار الشرعي لحدود الحرية، ومن أبرزها آراء العلَّامة د. يوسف القرضاوي، رحمه الله، في كتابه «الإسلام والحرية» المنشور عام 2006م.

فحرية التعبير، بحسب القرضاوي في كتابه، مقيدة بالحق والأدب، دون إيذاء الناس أو هدم القيم، حيث يحرم الاستغلال للتغرير، ويشجع على الأمر بالمعروف كأساس للنقد، وعليه فإن الحرية في الإسلام لها ضابط شرعي، يتمثل في المسؤولية لتجنب الفوضى الأخلاقية.

وإزاء ذلك، يمتد تأثير حالة الجدل حول «الترند» إلى الواقع، إذ يكشف النقاش عن توجه الرأي العام السعودي نحو رفض المحتوى المهدد للهوية، مع مطالب بتشديد رقابة المنصات الاجتماعية، كما في منشورات تربط بين القحطاني ولائحة الذوق العام.

هذا النضج المجتمعي يجعل الجمهور شريكاً في الحفاظ على القيم؛ ما قد يدفع إلى قرارات تنظيمية مثل تعزيز التوعية أو فرض غرامات على الإعلانات المرتبطة بالمحتوى الهابط.

لا يزال ترند «#مشاعل_القحطاني_والذوق_العام» مجسداً لمشهد متجدد لسجال التوازن بين التعبير الرقمي والحدود الشرعية؛ ما يبرز دور الرأي العام كقوة رقابية تدافع عن الحياء والقيم، ويعكس دلالة مجتمعية مفادها أن مجتمعاتنا لا تزال في طور صياغة هويتها أمام العولمة الرقمية، ولا تزال متمسكة، في أغلبها، بالثوابت الإسلامية.


اقرأ أيضاً:

كرامة النساء.. و«قذف سيدات النصر»!

كيف تصنع جيلاً لا يسقط أسير «الترند»؟

الوعي الشبابي في فخ «التريند»!


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة