قوانين النصر في القرآن (2)
سلطان اليقين.. لماذا النصر من عند الله وحده؟
إن البحث عن
النصر في دهاليز الأدوات والأسباب والتحالفات فحسب، ليجعل المرء ييأس من بلوغه إن
فقد أسبابه أو ضعفت إمكاناته، بل ربما يتوقف عن السعي لتحقيقه ويستسلم لواقعه
البئيس.
حقيقة مصدر النصر
ولكن حينما يدرك
أن للنصر مصدراً واحداً، لا مجال لحصوله إلا منه سبحانه حصراً وقصراً، ويقرأ وهو
على عرصات اليقين: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ) (الأنفال: 10)؛ يترسخ في قلبه أن النصر قريب منه بقدر قربه من معطيه
وواهبه سبحانه.
عندها يقف على
أعتابه مناجياً، سائلاً، متذللاً أكثر من وقوفه على الأسباب، مدركاً أن الأسباب
للاستعمال وليست للعطاء والمنع، حينها يلهمه ربه تعالى أبواب تحصيله، ويفتح له من
أنوار الهداية الربانية فكراً وتخطيطاً وثقة في الله وتسليماً لأمره، واحتساباً
لما يصيبه ولما يبذله عنده، فيتحول طلب النصر إلى محراب تعبد وإخبات.
قانون النصر الرباني.. أصل عقدي
إن قانون النصر
الرباني، المنطلق من قوله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ) ليس مجرد مقولة زمنية تستدعى في الشدائد فحسب، بل هو
أصل عقدي متين، ومحور عملي لتوحيد الفاعلية الإلهية؛ يعيد للإنسان المؤمن موقعه
الصحيح كأداة للسبب في يد مسبب حكيم.
هذا النصر ليس
غنيمة تكتسب بالدهاء البشري المحض، وإنما هو هبة علوية تمنح ليقيم الله بها دينه
وغاياته الكبرى في الأرض، لا لتصرف في تمجيد الأهواء أو تصفية الحسابات الشخصية
الضيقة، إن ما يجريه الله تعالى في ساحة الصراع من تثبيت وتمكين وكشف لمكر الخصوم،
يظل بأصله فعلاً أسند إلى فاعلية الرب وحده، تصديقاً لقوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ
قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) (الأنفال: 17).
وهذا الجزم ليس
إلغاء لحركة العبد واجتهاده، بل هو تأكيد على أن الأسباب كلها، مهما عظمت، لا تعدو
كونها أدوات مسخرة تختار الإرادة الإلهية وقتها ومآلها وقدرتها.
التوازن بين اليقين والأخذ بالأسباب
وإذا استقر يقين
العبد بأن النصر هبة إلهية لا حصيلة حيل بشرية، تحرر القلب من رق المخلوقات
وهلعها، ليجسد عبودية التوكل، فحق الإيمان هو أن تجمع بين بذل أقصى الإعداد الواجب
شرعاً ومقتضى عقلياً، والاعتماد الكلي على المولى في النتائج، دون التعويل على
الوسائل كمنطق مؤسس، فترك الأسباب ليس توكلاً، والتعويل عليها يعد منزلقاً في
الشرك الخفي.
شواهد النصر في سجل النبوة
إن سجل النبوة
شاهد خالد على أن مسالك النصر العملية تكشف حين تستأصل الأسباب الظاهرة وتتجرد
القلوب للسماء وحدها:
- فقد أغلقت حيل
الأرض على نوح، فلم يبق له إلا بوح المناجاة الأعظم مستسلماً.
- وعند التقاء
الأمواج بالخشية، أسقط موسى كل منطق دنيوي وتمسك بحبل اليقين المطلق.
- وفي سيرة
المصطفى، تضيء أحداث «بدر» و«الحديبية» أن سنن النصر تتلون؛ فمرة هو مدد سماوي
يمحو الجيوش، ومرة هو فتح يتشح برداء هدنة تبدو هزيمة، لكن البصيرة الربانية تكشف
دائماً عن ثمرة أعظم ومآل أنفع بعد حين.
فليعلم السالكون
أن عقد النصر مرتبط بالحكمة الشاملة، لا بقصر نظر اللحظة الراهنة.
أوهام النصر المستجدي
ومن الشقاء
المنهجي أن يظن قوم أن نصرهم مرهون بالاستقواء بالطغاة المجرمين، أو بالبحث عن
التمكين عبر التطبيع المذل مع المحتلين، أو بالتماس العون من الشرق أو الغرب أو أي
قوة دولية لا ترعى لله عهداً ولا ذمة، بل الأدهى والأمر، أن يرافق هذه التبعية
تهاون بقواعد الدين وأصوله، ظناً أن التنازل عن الثوابت مفتاح العطاء البشري!
لذا، يجب على
أهل الإيمان أن يدركوا أن النصر عطاء حصري، هبة ربانية لا تُستجدى ولا تشترى، تمنح
بصدق وبذل لمن أوفى بعهده، فلا يطلب إلا من عنده، ولا يتوقع إلا منه، ولا يؤمل إلا
فيه، فما دام الله مع الموحدين الصادقين، وما داموا مستمسكين بمنهجه القويم، فلا
ينبغي لليأس أو العجز أن يجد له سبيلاً إلى قلوبهم؛ لأن العجز الحقيقي هو في
الافتقار إلى غير الله، لا في قلة الوسائل الدنيوية.
التحذير من التواكل واستعجال الثمرة
وأعظم الزلل في
إدراك هذا القانون أن يتخذ ذريعة للقعود والتواكل السلبي، فيسقط بذلك فرض الإعداد
والتخطيط، فانتظار النصر الإلهي مرهون بعقد لا ينفصم، يجمع بين صدق النية الخالصة
وبذل الوسائل المشروعة لنصرة الحق وحده، فلا تمكين لمن يتاجر بالدين لقاء حطام
دنيوي، كما أن استعجال الثمرة أو اليأس من تأخرها لهو ضعف نفسي قاتل؛ فربما كان
التأخير امتحاناً وتطهيراً للنفوس، لئلا تستقبل التمكين إلا وهي في ذروة الإيمان
والاستقامة.
ميثاق اليقين
إن وصايا الختام
تنادي الروح لجمع الشتات في محراب اليقين، حيث تتصالح همة العامل مع بوصلة التوحيد،
فلتكن الخطوة الأولى في هذا الميثاق الإلهي إصلاح القلب، قبل أن تشرع في استدعاء
النصر، فما قيمة راية ناصرة لو رفعها قلب خائر؟!
اجعل نصرة الله المقياس
الأعظم الذي تشرع به كل سياسة وتقام عليه صروح المشاريع؛ فتبني القوة المادية
بقانون الإعداد الأمين، والقوة المعنوية ببوح الخضوع والإذعان للحكمة التي لا
تناقش، ولتعلمن المؤسسات والدول أن إستراتيجيات الأرض لا تفلح إلا إذا سكنها أفق
المقاصد الربانية؛ فتتجه دفة التعليم والتربية نحو بناء وعي يرى في نصرة الدين
غاية وجودية، لا منطقاً متذبذباً للتمكين الذاتي العابر.
إن إعلان «لا
نصر إلا من عند الله» ليس مجرد شعار، بل هو فلك دائم يثبت القلب لئلا يميل عن محور
التوحيد، وهو ميزان حكم يزن بين ثقل الأسباب وخفة النتائج، ومدرسة لا تنضب تذكر
الأمة بأن عزتها الحقيقية كامنة في ربطها بربها، وليس في الافتتان بالقوى الأرضية
وحدها، فمن صدق العهد وأوفى بالميثاق؛ تزينت له راية الوعد الأزلي: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي) (المجادلة: 21)، فنعم المولى ونعم النصير.
ليس النصر غنيمة
تجتلب بحد السيف وسواعد البشر، بل هو فيض إلهي ينزل على فؤاد العبد الصادق لحظة
تجرده من قيود الأسباب، ولا تبتغِ العز تحت لواء طاغوت زائل أو قوى فانية؛ فالعزة
بتمامها راسخة في صدق العبودية، ومرتكز يقين امرئ بالله أمضى وأرسخ من جيش يخافه
العالم، وليس العجز حقاً في نقص العتاد أو وهن الجسد، بل في فقدان ثبات القلب؛ فمن
كان الله وكيله ونصيره، لن يضيره كيد أهل الأرض جميعاً.