سورة «الناس».. انسجام المعنى والإيقاع وصفة الحرف (2)

د. أسامة الملوحي

28 يناير 2025

6159

ولكن كيف نستعيذ؟ هل في السورة تفاصيل عن كيفية الاستعاذة؟ نعم، التفاصيل والكيفية في صفات الله وأسمائه جل شأنه في السورة نفسها، فالاستعاذة تكون بتفعيل أن يكون الله ربك خلقك من العدم ومنَّ عليك أن خلقك وأوردك شيئاً مذكوراً في امتحان الدنيا الذي جائزة الفائزين فيه الجنة.

وبتفعيل القناعة أن الله وحده يملكك، وهو ما يجب عليك أن تتخذه ملكاً عليك، فلا سيطرة كبرى عليك من غيره؛ فتعيش حراً لأنه لا يستقيم أن تتخذ غيره ملكاً عليك إلا أن يكون أميراً أو قائداً يقودك في إدارة أو عمل ولا طاعة له أصلاً في معصية الملك الخالق.

وتستعيذ بأن تفعل الألوهية، أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، فمن تذعن له ويأسرك هو إلهك حتى لو كان هوى مستحكماً أو شهوة مستبدة، وتفعيل الألوهية منك تجعلك أقوى الأقوياء محصناً ضد كل المداخل التي يدخل منها الموسوس من الجنة والناس.

الأمر في الاستعاذة بعد تفعيل القناعات الإيمانية الثلاث يؤدي إلى قناعة داخلية مهولة خاصة ومتينة تتمكن من الإنسان فتحوله إلى كائن لا يصدق الناس مدى ما يشاهدونه منه من قوة وعنفوان وقدرات، ونحن لا نزال نرى نماذج حية ممن امتلكوا مثل هذه القناعة المهولة.

في الدنيا من حولنا هناك ملك يملك ولا يحكم، وهناك ملوك يملكون ويحكمون، ولكن الشيطان لا يملك ولا يحكم، ولكنه يغري ويزين ويعد ويمنّي وينزغ ويوهم أنه قوة تدعم وتجير؛ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 48).

ومن أساليب الوسواس من الجنة والناس التي تطال الجمع المؤمن التي يتبعها لهزيمة جمع المؤمنين نشر الإشاعات الكاذبة والأخبار المحبطة، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83)؛ في دلالة ظاهرة على أن نشر الإشاعات الكاذبة نوع من الوسوسة الجمعية التي تنتشر كالنار في الهشيم، وتدمر بشكل واسع خطير.

وقدم الجنة على الناس لأننا لا نرى الجنة ولا نرى آثارهم؛ (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27)، وما يناسب الاختفاء والسرية أن يقدم الجنة على الناس.

الإيقاع في سورة «الناس» هادئ هامس منخفض جداً يناسب المعنى في التسلل والتخفي أو الاختباء والهروب، والسين ناسبت هذا الإيقاع تماماً، وناسب حرف النون أيضاً جو الإيقاع المنخفض للسورة، فالنون حرف متوسط القوة، وعندما أتى وامتزج مع السين أعطى المزيج إيقاعاً هادئاً، واختفت من السورة أحرف الاستعلاء والإظهار، وخلت من المدود التي تفضح الصوت وتعلي الإيقاع.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة