شاهد عيان يهودي على الصهيونية (3)

في رسالةٍ أخرى من القاهرة، وصَف الكاتب
مقابلةً له مع شيكوريل، يقول فيها: قابلنا السيد شيكوريل في مكتبه الكائنِ في
متجره -وهو
أكبرُ متجر في مصر، مليء بصنوف السلع، جميل البناء، حديثه- وكان معه في مكتبه الحاخام ناحوم ونائب مدير
المتجر، الذي هو عضوٌ بارز في الجالية اليهودية.
إنَّك حيثما توجَّهتَ هنا في لقاء على
ميعاد، كانت أول خطوة في مراحل العمل هي أن تشرب فنجانًا من القهوة التركية، وبهذه
البداية بدأتْ زيارتنا للسيد شيكوريل، فقلَّما يبدأ حديثٌ جادٌّ إلَّا بعد أن تكون
هذه الشعيرة قد تمت.
وبدأتُ أنا الحديث -كما رجاني السيد
شيكوريل أن أفعل-
بأن أخبرتُهم عن المجلس اليهودي الأمريكي، وعن دهشتي السارَّة التي دُهِشتُها حين
سمعت الحاخام ناحوم وهو يحدثني عن اليهود في مصر، والطمأنينة التي يتمتعون بها في
حياتهم.
وشرحتُ لهم كيف أنَّ ضجة الدعاية
الصِّهيونية في أمريكا، والدعوة هناك لجمع المعونات لإسرائيل، قد ضلَّلتْ حتى
أولئك الذين أرادوا منَّا أن يحصلوا على معلومات صحيحة عن حالة اليهود في البلاد
العربية، فكان كلُّ ما سمعناه تقريبًا هو التُّهَم التي وجَّهَتها الصهيونية
وإسرائيلُ إلى العرب بأنَّهم يريدون إبادتهم، وبأنَّهم يضطهدون الساميِّين. فأكد
لي السيد شيكوريل صحةَ ما سمعتُه قبل ذاك من الحاخام ناحوم، وأنَّ هذه التُّهم
كلَّها باطلة بطلانًا تامًا، نعم، إنَّ هناك شعورًا بالقلق، لكنَّه شعورٌ ناجم من
التحوُّل العميق الذي تتحول به البلاد من حياةٍ إلى حياة، لا من اضطهادٍ موجَّه
إلى اليهود بأيَّة صورة من الصور.
ولئن كان الفقر الشديد شائعًا بين اليهود
هنا، فهي حالةٌ تَصدُق على مصريين كثيرين من دياناتٍ أخرى، وإنَّ مِثل هذا الفقر
لهو نفسُه أحدُ العوامل الهامة التي أدَّت إلى قيام الثورة.
وقد اتهم السيد شيكوريل وكلاءَ الصهيونية
باستغلالهم لأمثال هذه الظروف القائمة، مع علمهم أنَّها لا تمتُّ بصلةٍ على
الإطلاق بعلاقة اليهود بغيرهم .. ويعتقد السيد شيكوريل أنَّه برغم جهود الصهيونية
نحو تهجير اليهود، فليس هنالك إلَّا عددٌ قليل جدًّا من يهود مصر يفكرون أقلَّ
تفكير في الهجرة إلى إسرائيل.
ولعلَّ أقوى حُجة قدَّمها السيد شيكوريل
في حديثه، هي خبرته الشخصية التي صادفها في عمله؛ فقد أُحرق متجره في حريق
القاهرة، الذي حدث في يناير سنة 1952م — وكان ذلك قبل الثورة — فواجهَ هو وشركاؤه
هذا السؤال: هل يُعيدون بناء المتجر في القاهرة؟ أو يُقرِّرون بأنَّ الأمل في
المستقبل مسدود أمام اليهود المصريِّين؟ «وإنَّ جوابنا عن هذا السؤال» هكذا استطرد
شيكوريل في حديثه «لَتراه قائمًا في هذا البناء الجديد، الذي يُعدُّ من أجمل
المباني في مصر؛ فهو كافٍ وحدَه للدلالة على ما نظنُّه بالنسبة إلى مستقبل اليهود
في مصر».
ومضى الكاتب يقصُّ في رسالته هذه عن
حديثٍ فرعي دار في مكتب السيد شيكوريل؛ «وذلك أنَّ الجالية اليهودية أرادت أن
تُقِيم لنا — زوجتي وأنا — احتفالًا تكريميًّا، وأراد السيد شيكوريل أن يستطلع
مسئولًا في الحكومة رأيَه في ذلك، وجاءنا شابٌّ نابهٌ واشترك معنا في الحديث،
فأكَّد لنا رغبة أولي الأمر في أن يحضر بعضُهم هذا الحفل؛ لأنَّهم حريصون أشدَّ
الحرص على أن يُظهروا للجالية اليهودية ما يُكنُّونه لهم من رعاية لأوجُه نشاطهم
الاجتماعي.
وإذن فالحكومة لم تكتفِ بمجرد الموافقة
على إقامة الاحتفال، بل أرادت المشاركةَ فيه. إنَّ رجال الحكومة هنا يعلمون ما
يتَّهمُهم به الصِّهيونيون من اضطهادٍ للسامية، ويريدون أن يُبطلوا الاتهام، وقد
كان أروعُ جانب من حديث الشاب اللامع الذي جاءنا مُوفَدًا من الحكومة، حين أخذ
الحاضرون يُحدِّدون مكان الاجتماع، فكان رأي شيكوريل أن يكون الاجتماع في مكانٍ ما
من ممتلكات الجالية اليهودية، فأصرَّ الشاب على أن يكون الاجتماع في فندق
سميراميس، تاركًا الاختيارَ الأخير للسيد شيكوريل، لكن وجهة نظره في تفضيل الفندق
للاجتماع، أقامها على أساسِ أنَّه بينما الحرية التامة مكفولةٌ لكل فئة دينية أن
تُمارس شعائرها على أيِّ نحو شاءت، فإنَّ الحكومة حريصةٌ على الفصل بين النشاط
الاجتماعيِّ والعبادة الدينية، وأنَّ اجتماعًا كهذا إذا ما أُقيم في فندقٍ عام،
كان دليلًا على الفصل بين الجانبين».
ويقول صاحب الرسالة إنَّه بعد حوار طريف
بين شيكوريل من طرَف، وهذا الشاب النابه من طرَفٍ آخَر، سُئل ماذا تختار لنفسك
أنت، وأنت موضعُ التكريم؟ فأجاب بأنَّه برغم أنَّه لا يهتم بمكان الاحتفال أين
يكون، لكنَّه يؤيد الشابَّ في وجهة نظره؛ لأنَّها هي نفسها وجهة النظر التي ينظر
منها المواطنُ الأمريكي.
ويُكمل الكاتبُ رسالته هذه بوصفٍ لزيارةٍ
قام بها لمديرية التحرير، وللجهود التي رآها مبذولةً هناك، واستطرد ليُثني على
العزيمة الماضية التي لا تكلُّ ولا تمل، عزيمة الحكومة والزعماء في بعث الحياة
بعثًا جديدًا.
ثم يصف زيارته للمحلة الكبرى ومصانعها،
وللمراكز الاجتماعية في الريف، ويختم بحديثٍ دار بينه وبين دبلوماسيٍّ في وزارة
الخارجية، تحدثا فيه عن سياسة مصر تجاه إسرائيل، فوضَع له هذا الدبلوماسيُّ النقطَ
فوق الحروف؛ ممَّا جعله على علم تام بموقف العرب من هذه المصيبة التي أُصيب بها
العرب على أيدي المستعمرين.
ونخطو خطوًا خلال الرسائل المرسلة من
بغداد ودمشق وبيروت، وفيها معلوماتٌ قيمة وملاحظاتٌ جديرة بالنظر، لنصلَ مسرعين
إلى رسائل الكاتب من القدس بقسمَيها: العربي والمحتل.
ففي رسالةٍ من القدس العربية، يكتب
(بتاريخ 21 من مايو 1955م) قائلًا إنَّه يكتب والشعور يتملكه بأنَّه قد بعدَ عن
دنيا الواقع بُعدًا لم يُحسَّ له نظيرًا من قبل.
وإنَّه لمن المفارقات الغريبة أن يكون
هذا الشعورُ باللاواقع منبثقًا من حقيقةٍ واقعة، وهي أنَّ الكاتب يكتب ما يكتبه،
وهو قابعٌ فوق المركز العصبي للمشكلة، التي استنفدَت كلَّ طاقاتهم وقدراتهم
العقلية مدى أعوامٍ طِوال: «فها هو ذا حائطٌ بأكمله من حوائط غرفتنا في الفندق
مصنوعٌ من زجاج، يؤدي بنا إلى شُرفة رائعة، لو وقفتُ فيها استطعتُ بالفعل أن أنفذَ
ببصري خلال نوافذ البيوت في القدس المحتلة. وقد اجتمعتُ هذا المساءَ -في حفل ساهر- بأناسٍ عرب، كانوا فيما مضى يَعبُرون هذه
الرُّقعة الصغيرة، عائدين إلى منازلهم: لكنَّهم الليلة لا يستطيعون إلَّا أن
ينظروا من بعيد، وأن يتذكَّروا.
وإنَّه لَمِن هُراء القول: إن يُناقش بعضُنا بعضًا
في مَن هو المسؤول عن كون هؤلاء الناس واقفين هنا وليسوا هناك؛ لأنَّه إذا كان
صندوق الحلوى الزجاجيُّ يَحول بين الطفل والحلوى، فإنَّها عندئذٍ تكون حقيقةً لا
تُغيرها حقيقةٌ أخرى، وهي أنَّ ثَمة خلافًا في الرأي عن اسم الصانع الذي صنَع زجاج
الصندوق! ويكفي أن تكون الحلوى ممتنعةً على هؤلاء الناس هنا، بعد أن كانوا هم
أصحابَها».
ويمضي الكاتب بعد ذلك في التعبير عمَّا يشعر به في هذه الرقعة المليئة بذكريات التاريخ، التي يمر عليها الزمن وكأنَّما هي في أزليةٍ أبدية لا تُشارك الزمن في عبوره: «فاليوم الذي انقضى عليه الآن ثلاثةُ آلاف عام، واليوم الذي سنصبح عليه غدًا في هذا المكان، موصولان في وحدةٍ زمنية واحدة؛ ففي موضعٍ قريب من قبَّة الصخرة كان العمل قائمًا لرصف طريق يمتدُّ إلى بيت لحم، وعندما أزالت آلاتُ الهرس بعضَ الأنقاض من الطريق، انكشف جزءٌ «جديد» من جدارٍ قديم؛ ممَّا اضطرَّ القائمين بالعمل أن يَدوروا بالطريق في انحناءةٍ بحيث يحافظون على الأثر المكشوف، إلى أن يُقرر علماء الآثار المتخصصون ما إذا كان هذا الجدارُ «الجديد» القديم جزءًا من «المعبد الأصلي».
اقرأ أيضاً: