«طوفان الأقصى».. وصناعة جيل التحرير

لقد شكلت «طوفان الأقصى» منعطفاً تاريخياً في وعي الجيل الفلسطيني الجديد، إذ أعادت صياغة الهوية الوطنية وجعلتها أكثر ارتباطاً بقيم المقاومة، وتعمق فيها الإحساس بالانتماء لفلسطين كل فلسطين من بحرها إلى نهرها، وشكّلت لديه ذاكرة جمعية مستصحبة تاريخ الشعب الفلسطيني النضالي منذ بداية الاحتلال البريطاني فالصهيوني، ذاكرة مستندة إلى الحق التاريخي والشرعي والقانوني.

جيل «طوفان الأقصى».. صلابة في مواجهة الاحتلال

وكان من آثار «طوفان الأقصى» الهائلة إزالة الغشاوة عن أعين الشعوب الغربية التي باتت تتبنى السردية الفلسطينية وتنبذ السردية الصهيونية، وهذا التغيير في الموقف الشعبي الغربي كان ثمرة للحراك الفاعل للناشطين الفلسطينيين ومن ناصرهم في وسائل التواصل الاجتماعي، وانتقال هذه الروح الرافضة للظلم والإبادة لكثير من المؤثرين الغربيين؛ ما كان له بالغ الأثر في سقوط مؤيدي السردية الصهيونية في انتخابات عُمد بعض المدن الأمريكية التي كانت تعد معاقل تاريخية للحزب الجمهوري الأمريكي كنيويورك وفرجينيا وغيرهما كثير.

لقد تربى جيل «طوفان الأقصى» على قصص البطولة التي خاضها جيل الانتفاضة الأولى والثانية، فقد كان قادة المقاومة الذين فجروا «طوفان الأقصى» من هذا الجيل الذي رفض الاستسلام للأمر الواقع والقبول باستمرار الاحتلال مريحاً للمحتل لا يدفع كلفته، جيل تربى على التمسك بالحقوق وعدم التفريط بالثوابت، خاصة بعد الفشل المريع لاتفاقية أوسلو وتبخر أوهام تأسيس الدولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967م، فجاء جيل «طوفان الأقصى» أقوى وأصلب من جيل الانتفاضتين، نظراً لتراكم الخبرات والتجارب وتجذر الإيمان بأن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة.

أما الآن وبعد مرور أكثر من عامين على حرب الإبادة، فإن الجيل القادم سيكون الأكثر صلابة وحزماً في التمسك بحقوقه المشروعة وبجميع أشكال المقاومة وعلى رأسها المقاومة المسلحة، ذلك أن هذا الجيل عايش الإبادة اليومية بأبشع صورها، وعانى من الخذلان من القريب والبعيد، فلا تكاد تجد بيتاً إلا وقد فقد العديد من الشهداء، وبقي الجرحى والثكالى واليتامى شهداء على وحشية الاحتلال، فضلاً عن التدمير الشامل لبيوت المواطنين واستهداف البنية التحتية وكل أسباب استمرار الحياة.

وهذا لا شك رسخ عنده عقيدة حتمية المواجهة واستحالة التعايش مع هذا العدو، مواجهة لا مكان فيها لحلول ترقيعية، فإما النصر وإما الشهادة، فقد تأكد لهذا الجيل أن معركتنا مع المحتل معركة وجود لا معركة حدود.

أطفال اليوم هم جيل التحرير

لقد رسخت «طوفان الأقصى» ثقافة المقاومة في نفوس الأطفال والشباب ذكوراً وإناثاً، وتمايزت الصفوف فلا مكان للحياد، إما أن تكون مع المقاومة أو مع الاحتلال، وعلى عكس ما خطط الاحتلال من خلال استهدافه للمدنيين بغرض ثنيهم عن الالتفاف حول المقاومة، فإن الحاضنة الشعبية على الرغم من شدة الفقد والألم صاروا أكثر تمسكاً بمقاومتهم الباسلة، وأشد رفضاً لمشاريع التسوية الظالمة.

إن «طوفان الأقصى» أعادت صياغة هذا الجيل الجديد وجدانياً وتربوياً وثقافياً وسياسياً، ويمكن ملاحظة معالم هذا التغيير بشكل لا تخطئه عين المتابع فضلاً عن عين الخبير، وعلى سبيل المثال نذكر ما يأتي:

أولاً: البعد الوجداني:

لقد أوجدت «طوفان الأقصى» حالة وجدانية مشتركة بين الفلسطينيين، حيث الألم والفقدان أصبحا جزءاً من الهوية، لكنه أيضا ولّد شعوراً بالفخر والبطولة والثبات، فكل يوم يعيش أهل القطاع حكايات ملهمة، تمزج بين الألم والأمل، والصبر على البلاء وحتمية الفرج، وأصبحت صور الشهداء والقصص البطولية أيقونات وجدانية تُغرس في وجدان الأطفال والشباب، لتشكل جزءاً من ذاكرتهم الجمعية تؤسس للجولة المقبلة، فالمعركة مع المحتل جولات حتى تحقيق النصر الكامل الذي سيتوج بتحرير بيت المقدس وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني.

ثانياً: البعد التربوي:

إن هذه الأحداث الجسيمة جعلت الأطفال واليافعين يتلقون دروساً يومية في الصمود والكرامة، بعيداً عن الكتب المدرسية التقليدية، عبر التجربة الحية في مواجهة الاحتلال، فلم تعد العملية التربوية محصورة في المدرسة، بل أصبحت جزءاً من الحياة اليومية، حيث يتعلم الجيل الجديد أن الحرية ليست مجرد شعار يتردد على الألسنة، بل ممارسة يومية تصب بشكل مباشر في توسيع الاشتباك مع المحتل، حتى بات الصغار يدركون معنى الاحتلال والظلم؛ ما يعزز لديهم مبكراً حس المسؤولية تجاه قضيتهم الوطنية العادلة.

وستبقى الأمهات -خاصة الثكالى منهن- المدرسة الأولى في تعليم أولادهن معاني البطولة والثبات، وأن معارك التحرير تستحق التضحيات، بل لا تؤتى ثمارها إلا ببذلها.

ثالثاً: البعد الثقافي:

لقد أعادت «طوفان الأقصى» إنتاج الثقافة الوطنية وأدب المقاومة، حيث ألهمت الشعراء والكتَّاب والفنانين لإنتاج أعمال جديدة تعكس روح المقاومة -خاصة ممن عانى من الفقد والألم-مما يرسخ الهوية الثقافية الفلسطينية.

ولم يقتصر هذا الأدب على المستوى المحلي، بل أصبح جزءاً من خطاب عالمي إنساني، حيث يتابع العالم ما يجري في غزة ويعيد النظر في تحرير مفاهيم العدالة والحرية، فأصبحت ثقافة المقاومة ثقافة عالمية بامتياز.

ونستطيع القول: إن «طوفان الأقصى» بنت نموذجاً حضارياً عالمياً برزت فيه قيم التضحية والإنسانية، وصححت مفاهيم المساواة والحرية والحقوق الإنسانية الثابتة، وبينت حقيقة الظلم والاستبداد.

رابعاً: البعد السياسي:

لقد أدرك هذا الجيل أن الحقوق السياسية لا بد أن تنتزع انتزاعاً، وأن التسويات التي جربت عقوداً من الزمن لم تجلب على شعبنا إلا المهانة والمزيد من ترسيخ الاحتلال.

ونحسب أن هذا الجيل سيكون محصناً ضد ألاعيب التسويات وعبثية المفاوضات مع المحتل وداعميه، وأن عليه ألا يجرب ما أثبتت التجربة فشله، وعليه سيزداد تمسك هذا الجيل بجميع أشكال المقاومة، وسيضيف عليها وسائل جديدة، لعل من أبرز ملامحها ملاحقة السردية الصهيونية في الحاضنة الغربية والعمل على إسقاطها تمهيداً لقطع حبل الناس الذي يمثل شريان الحياة للمحتل.

وبعد، فإن هذا الجيل سيفاجئ العالم أجمع بإصراره الحثيث على تحقيق أهدافه وتطلعاته.

وإن غدا لناظره قريب.


اقرأ أيضاً:

جيل المقاومة.. أبناء فلسطين يحطمون قيود الاحتلال

جيل «طوفان الأقصى».. ميلاد الوعي والمقاومة من المقاطعة إلى التحرير

كيف عزز إعلام المقاومة الرواية الفلسطينية في مواجهة أكاذيب الاحتلال؟




الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة