غزة صانعة الأيديولوجيا.. كيف توحِّد القضية الفلسطينية حركات النضال العالمية؟!

غزة حلقة وصل بين النضال الاحتلالي ومناهضة الاحتلال، ولفهم الدور الرمزي والإستراتيجي القوي الذي تؤديه غزة، من الضروري وضعها في سياق السرد الأوسع لمناهضة الاحتلال (anti-colonial narrative)، فمنذ نكبة عام 1948م واحتلال «إسرائيل» لغزة بعد عام 1967م، جسّد هذا القطاع النضالَ الدؤوب ضد الاحتلال الاستيطاني والتهجير.

إن هذا المنهج القمعي يتيح للحركات المختلفة ترجمة التجربة الغزية والفلسطينية إلى لهجتها الخاصة في المقاومة، ولطالما تجاوز صدى نضال غزة حدودها، حاشدًا طيفًا من الحركات الأيديولوجية العالمية من مناهضي الاحتلال (Anti-colonialists)، وقدامى الشيوعيين (former communists)، والاشتراكيين السابقين، واليساريين، ونشطاء تحرير السود، ونشطاء السكان الأصليين كالهنود الحمر، والمدافعين عن الحقوق المدنية، والحركات الفيمينية، والمدافعين عن حقوق الأقليات، والجماعات المناهضة للصهيونية بشدة (staunch anti-Zionist groups).

في السنوات الأخيرة، سعت هذه الفصائل المتنوعة بشكل متزايد إلى التضامن من خلال أنشطة منسقة مثل حملة مقاطعة «إسرائيل» وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، وحركة فلسطين (Palestine Action)، وحركة الأساطيل البحرية الهادفة إلى كسر الحصار (maritime flotillas).

ويشير هذا التقارب إلى تحالف متعدد الأوجه يجمعه التزامٌ مشترك بمقاومة القمع وتعزيز حق تقرير المصير الفلسطيني (Palestinian self-determination)، وعلى مر العقود، أعادت مختلف الجماعات الأيديولوجية تركيزها نحو التضامن مع غزة.

إن واقع غزة اليوم تمكن من دفع هذه المجموعات المتنوعة إلى التركيز على توحيد الإطار الفكري والأخلاقي بشكل مشترك، واستطاع هذا التحالف مؤخراً أن يلتفت حول تفسير مشترك لغزة كمثال للقمع المعاصر؛ ما يجعلها جبهة محورية في نضال عالمي من أجل التحرير.

1- قدماء الشيوعيين والاشتراكيون السابقون:

يرى اليسار الدولي والحركات المناهضة للاحتلال غزة ساحة معركة، حرفيًا ومجازيًا، حيث تتلاقى السياسات الإمبريالية مع المقاومة الشعبية، ويُجسّد الحصار المفروض عليها، والهجمات العسكرية المتكررة، والدمار الاجتماعي والاقتصادي الذي لحق بسكان غزة، العواقب المدمرة للمشاريع الاحتلالية الاستيطانية، ولا يضع هذا التأطير غزة كمجرد نزاع على الأراضي، بل كموقع متنازع عليه يُمثّل النضالات العالمية ضد الإمبريالية والعنصرية والظلم المنهجي، ويتردد صداه بعمق لدى النشطاء الذين يرون في محنة غزة إرثًا من الغزو الاحتلالي واستمرارية القمع المعاصر الذي يواجهه السكان الأصليون، والأشخاص ذوو البشرة الملونة، والأقليات المهمشة في جميع أنحاء العالم.

ويجد الكثير ممن التزموا سابقًا بالأطر الماركسية الصارمة في نضال غزة دليلًا واضحًا على الآثار المدمرة للرأسمالية الإمبريالية، ونظرًا لخيبة أملهم من إخفاقات الاشتراكية التقليدية، يتبنى هؤلاء النشطاء بشكل متزايد انتقادات مناهضة للإمبريالية والاحتلال تُبرز غزة كجبهة في الصراع الطبقي العالمي.

2- اليساريون واليسار الاشتراكي الأوسع (Leftists):

غالبًا ما يُركز انخراط هؤلاء في شأن غزة على حقوق الإنسان، ومناهضة العنصرية، والتضامن الدولي، وتندرج غزة في إطار نقد أوسع للرأسمالية العالمية النيو-ليبرالية والمجمعات العسكرية الصناعية.

3- حركة مناهضة الاحتلال:

إن غزة تُعيد إلى الأذهان نضالات الحركات المناهضة للاحتلال في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ضد القوى الإمبريالية الأوروبية، وتتوافق صورة إقليم غزة المكتظ بالسكان، الفقير الموارد، الذي يقاوم قوة عسكرية قوية مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، مع نمط تاريخي مألوف في البلدان المذكورة؛ ما يجعل من فلسطين طليعة مشروع مناهض للاحتلال مستمر، وليس منتهيًا، وتُقدّم نظرية مناهضة الاحتلال الاستيطاني تشبيهًا تاريخيًا قويًا بين الدول الضحية.

4- حركات تحرير السود (Black liberation activists):

أهم هذه الحركات حركة حياة السود مهمة (Black Lives Matter; BLM)، وبالنسبة لبقية النشطاء السود، وخاصة في الولايات المتحدة وحول العالم، يُوازي النضال الفلسطيني مقاومة العنصرية المنهجية وعنف الدولة ضد المجتمعات السوداء وذلك برسم خطوط فاصلة بين ممارسات الشرطة العنصرية، والحرمان الاقتصادي، وعنف الدولة العسكري، ويدافع العديد من نشطاء تحرير السود عن حقوق الفلسطينيين كجزء لا يتجزأ من النضال ضد التفوق الأبيض العالمي.

5- حركات السكان الأصليين (Indigenous Movements):

من هذه الحركات حركة تُمثّل الأمريكيين الأصليين تعرف باسم «الأمة الحمراء»؛ وهم الهنود الحمر (Red-Skins) في الولايات المتحدة الأمريكية، وحركة السكان الأصليين في أستراليا، ومثيلتها في نيوزيلندا، ومنها حركة الأمم الأولى في كندا، ومنها حركة القضية الأندلسية في الشتات وفي الداخل وخاصة في الجنوب الإسباني.

إن أوجه التشابه مع غزة وفلسطين عميقة؛ من حيث تجزئة الأرض الفلسطينية، والاحتجاز في محميات تعرف بالمخيمات؛ وهي سجون مفتوحة، وتدمير منازل الغزيين والفلسطينيين، وقمع هويتهم الثقافية التي تُجسّد تاريخهم الخاص من التهجير والإبادة الجماعية.

ولذلك، يتردد صدى الصمود الفلسطيني بعمق في مفاهيم السكان الأصليين للبقاء؛ فقد يرى هؤلاء النشطاء الأصليون مقاومة غزة كفاحًا مشتركًا ضد الهيمنة الاحتلالية الاستيطانية، ويُسلط نشاطهم الضوء على التجارب المشتركة لسرقة الأراضي، والمحو الثقافي، والتهميش المنهجي؛ ما يعزز التضامن المبني على الصدمات التاريخية المشتركة.

6- حركات الحقوق المدنية (Civil rights advocates):

تُشدد هذه الحركات على المساواة والعدالة وتفكيك العنصرية المنهجية، ويُجسد وضع غزة أزمة إنسانية متجذرة في التمييز العنصري والإثني الهيكلي، وهو ما يتردد صداه لدى دعاة الحقوق المدنية في جميع أنحاء العالم.

7- الأقليات والفئات المضطهدة (Minorities):

تُعرّف العديد من الفئات المهمّشة عالميًا قضية فلسطين بأنها نضال رمزي من أجل الكرامة وتقرير المصير ومقاومة الظلم المنهجي.

8- حركة مناهضة الصهيونية:

إنها النواة المناهضة للصهيونية، وهي التي توحد هذه الخيوط إذ تُمثل الهدف السياسي المُحدد، بالنسبة لهذا التحالف، لا تُفسر الصهيونية على أنها حركة من أجل تقرير المصير اليهودي، بل كمحرك أيديولوجي للمشروع الاحتلالي الاستيطاني، هذا المنظور، المتأثر بشدة بأعمال مثقفين فلسطينيين مثل إدوارد سعيد، ونورا عريقات، ينظر إلى مناهضة الصهيونية كشكل ضروري ومشروع لمناهضة العنصرية، مختلف عن معاداة السامية، هذا التمييز هو ساحة المعركة الأيديولوجية المركزية، حيث غالبًا ما تخلط الحكومات والمنظمات اليهودية الكبرى بينهما، وهي خطوة يندد بها النشطاء باعتبارها تكتيكًا لإسكات النقد المشروع.

إلى جانب معارضة السياسات «الإسرائيلية»، تُؤطّر بعض الجماعات المناهضة للصهيونية نشاطها في معارضة أيديولوجيات الاحتلال الاستيطاني، حيث تربط بين خطابي التحرير اليهودي والفلسطيني، وتُدين القومية العرقية وأنظمة الفصل العنصري.

وتتعرض هذه الحركة إلى تشويه واستغلال؛ إذ من دعاتها من يحاول حصر المشكلة في الكيان الغاصب دون بقية جذوره في العالم، ومنهم من يحاول حصرها في حكومة نتنياهو وحدها، ومنهم من يجعلها في الفئة المتعصبة من الحكومة، ومنهم من يحصرها في شخص نتنياهو، وهذا معناه أن مشكلة غزة وفلسطين ستزول بمجرد زوال هذه الأسباب المحصورة.

كان تطبيق نظرية الاحتلال الاستيطاني على السياق «الإسرائيلي» الفلسطيني الإطارَ الأكثر تأثيرًا، وقد روّج لنقدها سفسطياً باحثون مثل باتريك وولف، الذي جادل بأن الاحتلال الاستيطاني بنيةٌ، وليس حدثًا يهدف إلى إقصاء السكان الأصليين من أجل الاستيلاء على الأرض.

ومن دعاة مناهضة الصهيونية من يحاول أن يدين هذه الممارسات من باب الخوف الشديد على وقوع محرقات مستقبلية ضد اليهود في أي مكان من العالم.

9- الحركات الفِيمينية (Feminists):

تتفاعل ناشطات الحركات الفيمينية مع غزة على جبهات متعددة؛ مثل الآثار الجندرية للصراع العسكري، وصمود المرأة الفلسطينية، والانتقادات الأوسع للعسكرة والاحتلال الاستيطاني، وتُسلّط الحركات الفيمينية التقاطعية الضوء هنا على كيفية تأثير الاحتلال بشكل فريد على النساء والأطفال والفئات الضعيفة الأخرى.

10- تجمعات المهاجرين المسلمين في الغرب:

تجمعات المهاجرين العرب في الدول الغربية تحس القهر مما تعانيه من ظاهرة «الإسلاموفوبيا»، وكثير منها يعاني من الخوف من النشاط السياسي تحسباً لعودته إلى دياره الأصلية لرؤية الوالدين والأهل والأقارب، وهذا ما انعكس على تربية أولادهم، خاصة من الناحية السياسية؛ إذ قد يشارك أبناؤهم في تظاهرات سياسية غربية مختلفة شريطة ألا تمس من قريب أو بعيد بلدانهم الأصلية.

ورؤية المهاجرين لكل هذه الحركات الغربية تساند غزة، استطاعوا الاندماج فيها كظاهرة عامة غير مخصوصة ضد بلدانهم المطبعة من الكيان الغاصب في بعض الأحيان، وزادت شجاعتهم السياسية عندما تجاوز هذا الغضب الغربي القنوات الدبلوماسية التقليدية، وروايات وسائل الإعلام السائدة، ليجد تعبيره الأقوى في تعبئة شعبية عالمية، إذن تركيبة هذا التيار هي التي ميزت هذه التعبئة عن لحظات التضامن السابقة مع فلسطين.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة