غزة.. نصرٌ تأكد وواقعٌ معقَّد وصمودٌ لا ينكسر

في ظل الأوضاع بالغة الصعوبة في غزة من اشتداد الحصار المستمر والتجويع والفقْد والدمار والهجمات البربرية التي لا تتوقف جواً وبراً، وسط خذلان واسع النطاق عميق الجروح، يتساءل المهتمون بأمر القطاع وأبنائه في قلق شديد عن قدرة مجاهدي الإسلام هناك على مواصلة الصمود.

إن عزيمة المجاهدين لن تلين بحول الله وقوته، بعد ما رأيناه، ونراه منهم في ساحات الوغى من صلابة غير عادية وبطولات أذهلت العالم وحيّرت الخبراء وما زالت، كما أنه علينا أن نستحضر في هذا السياق قول الله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات).

ومع هذا دعونا نفترض جدلاً أنهم في لحظة ما عجزوا عن مواصلة الصمود، لا قدّر الله، نتيجة لنفاد الذخيرة والطعام ولو الفتات منه، فواجهوا العدوّ بصدور عارية حتى استُشهد منهم من استُشهد ونحو هذا مما قد تقتضيه حكمة الله، وهي الصورة الوحيدة التي يمكن للعقل أن يتقبلها لتوقفهم عن الصمود والاستمرار، بعد أروا الله وأروا الدنيا بأسرها بطولات أسطورية وصمود تعجز بعض العقول عن مجرد استيعابه، فهل يعني هذا إذا حدث أنهم قد هُزموا؟!

لا، فالهزيمة الحقيقية هي الانهزام النفسي أمام العدوّ وتجنب منازلته، لا سيما إذا كان يفوقك قوة مادية ودعماً بمراحل وبشكل تنتفي معه إمكانية المقارنة أساساً، أو أن تُقدِم على النزال ثم تُلقي سلاحك وتفرّ من العدوّ عندما يحمى وطيس المعارك وتتيقّن من ضخامة التضحيات وفداحة الكُلفة التي حتماً ستسددها.


عقيدة الصمود في مواجهة ضغوط التهجير |  Mugtama
عقيدة الصمود في مواجهة ضغوط التهجير | Mugtama
بعد ارتقاء 6 من أنجال المواطن الغزي إبراهيم أبو مه...
mugtama.com
×


أما الذين أقدموا على حرب مع عدوّ يعلمون تماماً أن الفوارق بين قوتهم وقوته تبلغ المسافة ما بين السماء والأرض، عدداً وعُدّة وعتاداً ودعماً بالفعل قبل القول من أعتى قوى العالم، في ظل حصار محكم خانق يطوّقهم من كل جانب ويمنع عنهم أساسيات الضرورات اللازمة، ليس للحرب، بل للبقاء على قيد الحياة.

ويقفون وحدهم في مواجهة قوى العالم الكبرى، ومع هذا يحرزون انتصارات مدوّية ويُثخنون أعداءهم ويأسرون منهم، ويقفون أمامهم وأمام ناصريهم نداً لند بيقين المؤمنين وشموخ الأبطال وكبرياء الأعِزّة، حتى إذا خلت أيديهم من السلاح بلا مَدد ونفدت مؤونتهم، فواجهوا بصدورهم وأيديهم الخاوية، حتى سقط معظمهم شهداء، فهذا ليس بهزيمة أبداً ولا يحمل من معاني الهزيمة شيئاً، بل هو نصر مظفّر، لمن يعي فقه النصر الذي أصبح ثابتاً في حقهم في كل حال وأياً تكن النهاية، بل إنه نصر من نوع خاص هم وحدهم الذين يمتلكون براءة اختراعه في العصر الحديث.

وحتى يتيقن الجميع من أنهم قد أحرزوا النصر بالفعل بغض النظر عما هو قادم، ولكي نقف على حقيقة ما قدموا وأنجزوا نسوق ما يلي:

1- في الحرب العالمية الثانية وأمام جيوش الغزو النازي:

- استسلمت الدنمارك في ست ساعات.

- استسلمت لوكسمبورج بعد يوم واحد.

- استسلمت هولندا بعد 5 أيام.

- استسلمت بلجيكا بعد 18 يوماً.

- استسلمت بولندا بعد 35 يوماً.

- لم تصمد فرنسا أكثر من 46 يوماً، انهارت بعدها جميع دفاعاتها تماماً ورضخت البلاد واستسلمت بشكل كامل.

- استسلمت النرويج بعد 62 يوماً.

علماً بأنها جميعاً كانت دولاً مستقلة، حدودها مفتوحة، لم تكن تعاني من أي حصار يمنع عنها حتى ضرورات الحياة من طعام وماء ودواء، وكانت تمتلك جميعاً بُنى تحتية قوية، بل إن من بينها إمبراطورية كانت تحتل ثلث الكرة الأرضية على الأقل وتحكم بلاده آنذاك، كما كانت من الدول الرائدة في تصنيع السلاح، إنها الإمبراطورية الفرنسية التي استسلمت لجحافل هتلر بعد بضعة أسابيع فقط من المقاومة.


بينما قطاع غزة لا تتجاوز مساحته 360 كيلومتراً، ومحاصَر من جميع الجهات ومنذ نحو عقدين، لم يكن يدخله ما يكفي سكانه من مقومات الحياة الأساسية بما فيها الماء والغذاء والدواء، ولا يمتلك بنية تحتية مؤهلة لأي إنجاز، وتعاديه القوى الكبرى في العالم وكذا أغلب المحيطين به إقليمياً، وجميعهم يساندون عدوه الذي يمتلك في الأصل واحداً من أقوى جيوش العالم وأفضلها تسليحاً وتدريباً وأكثرها شراسة.

ومع هذا لا نقول فقط أنهم صامدون أمام هذا كله لأكثر من عام ونصف عام، بل وحققوا بطولات أسطورية، بثّت الرعب في نفوس جنود العدو وضباطه إلى حد إصابتهم بمخاوف وعُقد وأمراض نفسية أُطلق عليها في أدبياتهم «متلازمة غزة»، حتى استشرى تعاطي المخدرات بينهم هرباً من جحيم البطولات الأسطورية لمجاهدينا، التي شهدوا بها علانية صارخين بعدم قدرتهم على استيعاب وقائعها.


غزة والعودة.. حكاية شعب لا يُهزم |  Mugtama
غزة والعودة.. حكاية شعب لا يُهزم | Mugtama
«العودة حق كالشمس».. «عدنا والعود أحمد».. هذا حال...
mugtama.com
×


2- الثبات النفسي والقوة الإيمانية والطاقات الروحية:

- رجال يجاهدون، بينما من آن لآخر يتساقط أبناؤهم وذووهم وأحبابهم من حولهم ما بين شهيد أو جريح.

- يقاتلون في ميدان لا يعرف الثبات ولو للحظة، فبين الفينة والفينة إما فقْد في صفوفهم، أو إصابة بالغة تترك أثراً دائماً، أو بنايات تُهدم، أو أحياء تُمحى بأكملها، وهذا ثبات نفسي عالٍ يرتكز على جُوّانية إيمانية عميقة وطاقات روحية هائلة.

- لم يفُتّ في عضدهم خذلان الجميع لهم، بما في ذلك غالبية إخوانهم في الدين والعروبة، وحتى من تعاطفوا معهم منعهم ضعفهم وعجزهم من تقديم أي دعم لهم، والصمود وسط هذا الخذلان، بل والتخذيل هو جهاد ونصر في حد ذاته.

3- مردودات الصمود والبطولة على أمة الإسلام:

- جددت بطولاتهم حيوية الأمة، وبعثت الروح تسري في جسدها الواهن المتهالك مرة أخرى بعد عقود طويلة من الذبول والوهن، وأيقظت جذوة الإيمان في قلوب أغلب المسلمين، وسيؤتي هذا أكله ولو بعد حين.

- نفضوا التراب عن راية الجهاد ورفعوها خفّاقة، وجددوا المعاني الحقيقية للإيمان اليقيني وفعّلوها بالتجسيد العملي، وحملوا أمانة الإسلام عملياً وسعوا بها وسط عالم يحاربها ويعمل جاهداً على أن يواريها الثرى.

- أحيت بطولات غزة معاني العِزة والكرامة والإباء في وجدان المسلمين وحوّلت أنظارهم صوبها وجعلت نفوسهم تهفو إليها، حتى وإن لم يُلحظ لهذا أثر ملموس بعد، لكن حتماً سيُثمر يوماً ما بحول الله.

- أقام صمودهم الحجة على الخانعين والمهزومين نفسياً وأسقط جميع المبررات الواهية.

- كشفت محنتهم التي حولتها جسارتهم إلى محنة، حقيقة الخونة في صفوف الأمة وأجبرتهم على تحديد مواقفهم المقيتة بعلانية وصراحة، لتتمايز الصفوف.

- وضعت غزة الأمة بكاملها أمام مرآة مقعرة، لتُبصر من خلالها جميع عيوبها ونقائصها.

فهل هناك نصر أكبر من هذا أيّاً كان ما تحمله الأيام والشهور القادمة؟

علينا أن ندعم غزة وأبطالها بكل قوة ممكنة مادية كانت أو معنوية، كل حسب طاقته الحقيقية، لكن ليس لنا أن نترقب النهاية لنعرف موقع أبطالنا فيها بين مهزوم ومنتصر، فقد ثبُت النصر لهم وتأكّد فعلاً بما قدّموا ويقدّمون.

ولا يعني هذا أبداً أننا نلْمح أيّ احتمال لخروج الأمر من أيدي المقاومين هناك في الفترة القادمة، نتيجة للضغط والحصار والتجويع، وكيف يُتوقع هذا وما زال الرجال في الخنادق يلقّنون عدوهم والعالم بأسره دروساً بليغة في الصمود والبطولة والشجاعة والتخطيط والتكتيك؟!

غاية الأمر أننا نؤكد أنهم انتصروا بالفعل، وأن صورة النصر هذه نهائية ولن تتبدّل أو تُخدش بحال.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة