غزة والعودة.. حكاية شعب لا يُهزم
«العودة حق كالشمس».. «عدنا والعود أحمد».. هذا حال الناس الذين عادوا إلى ديارهم في غزة وشمالها، بعد أن فروا منها تحت صواريخ الطائرات وقصف الدبابات وحمم النار، بداية حرب الإبادة التي شنها جيش الاحتلال الصهيوني على غزة وسكانها من الأطفال والنساء والرجال، وعلى بنيتها التحتية ومستشفياتها وجامعاتها ومدارسها ومساجدها، مستهدفاً تدمير معالم الحياة فيها عبر اقتلاع البشر والشجر وهدم الحجر.
إنها العودة التي طال انتظارها، رغم ما خلفته آلة الحرب الصهيونية الفاشية من دمار وآلام، إلا أن الأمل في العودة وإعادة بناء الحياة كان أقوى من أي تحديات.
إرادة وعزيمة
إنه مشهد عظيم ومؤثر جدًا لآلاف العائلات والمواطنين الذين اصطفوا على شارعي صلاح الدين، والرشيد، ينتظرون العبور إلى مدنهم وقراهم سيراً على الأقدام، يسابقون الريح والزمن للوصول إلى ديارهم، ويُبرز حجم الألم والفرح الذي يعيشه الفلسطينيون في هذا الحدث الذي اختلطت فيه المشاعر وامتزجت بين الدموع والفرح والزغاريد والتكبير، ويعكس تجارب معقدة مليئة بالمشاعر المتناقضة، ويُظهر تمسك الفلسطينيين بأرضهم وأملهم الذي لا ينطفئ رغم التحديات المستمرة.
عودة الفلسطينيين وعبورهم إلى أحيائهم ليست مجرد رجوع إلى مكان وجدران أو حتى ركام وأطلال، بل هي إعلان عن إرادة حياة لا تُقهر، فكل زاوية من هذه الأحياء تحمل قصصًا من الصمود والبطولة، تشهد على معاناة طويلة امتزجت بالإصرار على التمسك بالأرض والكرامة، تلك العزيمة التي ترى ملامحها في وجوه العائدين رسالة واضحة بأن الفلسطينيين لا ينكسرون، بل يعيدون بناء ما دمرته الحرب والمعاناة، ويبثون الحياة من جديد في كل حجر وزاوية.
يا له من مشهد مهيب، مئات الآلاف يتجمعون في العراء، على امتداد شارعي صلاح الدين، والرشيد، رغم الألم والبرد والمعاناة، وكأن الأرض نفسها تحتضن أهلها بعد غياب طويل، هذا التجمع الحاشد شمال النصيرات يعكس وحدة الفلسطينيين في وجه التحديات، وإصرارهم على العودة واستعادة الحياة وسط كل الصعاب، شارع صلاح الدين، بعراقته وعمقه التاريخي، وشارع الرشيد الممتد على ساحل غزة، يصبحان شاهدين على هذا الحدث التاريخي، حيث يُكتب فصل جديد من فصول الصمود والعودة.
قصص العودة
في هذا التقرير، تروي «المجتمع» قصص العودة وحكاياتها، التي تحمل بين ثناياها معاناة الماضي وعزيمة المستقبل، حيث يتلمس الأهالي طريقهم بين الركام، مستبشرين ببداية جديدة رغم صعوبة الواقع.
إبراهيم محمد، ذلك الشاب الذي نزح مع عائلته التي استشهد بعضها من شمال غزة بداية الحرب هرباً من القصف والقتل والدمار إلى منطقة مواصي خان يونس، ليعيش هو وعائلته حياة صعبة مليئة بالبؤس والشقاء في خيمة تفتقد لأدنى مقومات الحياة الإنسانية، قال لـ«المجتمع»: نزحت من معسكر جباليا بداية الحرب منذ أكتوبر تحت التهديد والقصف والقتل العشوائي أنا وعائلتي دون أن نستطيع حمل أغراضنا أو ملابسنا أو أي شيء نحمله معنا؛ لأن الوقت لم يسعفنا والقصف لم يمهلنا، حيث فكرنا النجاة بأرواحنا.
ويكمل: وها نحن اليوم بعد إعلان وقف إطلاق النار والسماح بالعودة نحقق حلمنا في العودة إلى ديارنا رغم تدميرها وإزالة معالم الحياة فيها، وسنعيش فوق أنقاض منازلنا وسنبني خيامنا هناك لنبقى متجذرين فيها، وسنعيد بناءها وتعميرها وستعود أجمل وأفضل مما كانت.
إنه شعور لا يُضاهى، أن تعود إلى مسقط رأسك بعد غياب طويل، وأن تتنفس هواء الأرض التي حملت ذكريات طفولتك، وأن ترى الأماكن التي كانت شاهدة على لحظاتك الأولى في الحياة، هذا اللقاء بالأهل والجيران يعيد الروح للإنسان، وكأنه استعاد جزءاً من نفسه كان مفقودًا، فالعودة ليست مجرد عودة للأرض، بل هي عودة للهوية والانتماء وللأمان النفسي الذي لا يمكن تعويضه.
وفي تصريحات تحمل في طياتها كل معاني الأمل والصمود والتحدي رغم الألم والفقد والمعاناة، عبّر المواطن أحمد العثماني الذي نزح من مدينته غزة مع أفراد عائلته إلى الجنوب عن فرحته بانتهاء الحرب ووقف إطلاق النار والعودة إلى مدينته ورائحة أرضه قائلاً لـ«المجتمع»: اليوم نعود إلى أرضنا، ليس فقط لاستعادة بيوتنا، بل لنثبت أننا هنا باقون، لا يمكن لأي قوة أن تقتلع جذورنا من هذا المكان، إنه يوم الزحف العظيم بعد معاناة النزوح والخيام والعذاب والقصف، ونحن نعود اليوم إلى ركام بيوتنا المهدمة لنبني فوقها خيمة الصمود والتحدي، ولنرسم لوحة العزة والكرامة والنصر العظيم، ولنصنع على أنقاضها الأمل الدائم الذي ينبض حتى في أحلك اللحظات.
من جهتها، عبرت الطفلة تالا المصري لـ«المجتمع» عن فرحتها وسعادتها بالعودة إلى بيتها في شمال غزة، لتلتقي ببعض أفراد أسرتها التي فرقها النزوح، معتبرة أن هذا اليوم أسعد أيام حياتها، أنساها كل الألم والمعاناة التي عاشتها في النزوح التي استمرت أكثر من سنة كاملة، وقالت ببراءة الطفولة: سألعب من جديد مع من بقي حياً من صديقاتي، وسأجتمع معهن ولو على أنقاض المنازل، متمنية أن تعود إلى حياتها الطبيعية ودراستها من جديد.
وفي حديثه لـ«المجتمع»، اعتبر الشاب محمود الصالحي، وهو الذي نزح مع عائلته من منطقة المغراقة، المحاذية لنتساريم، التي دمرها الاحتلال عن بكرة أبيها عند توسيع المنطقة الفاصلة في نتساريم، أن النزوح أصعب شيء يتعرض له الإنسان في حياته، وهو من أشد التجارب قسوة على النفس؛ لأنه ليس فقط انتقال من مكان إلى آخر، بل هو اقتلاع من جذور الذكريات والهوية، وفقدان الإحساس بالأمان والاستقرار، وترك البيوت التي تحمل الحلم والأمل، والانتقال إلى واقع مليء بالتحديات والصعوبات.
ولكنه في الوقت ذاته عبر عن فرحته بانتهاء الحرب، ووقف القتل والإبادة ونزيف الدم، والعودة إلى أنقاض بيته ليبني خيمته هناك، ويتنفس هواء أرضه ومدينته رغم الدمار الهائل الذي حل بها وقال: رغم الدمار والركام، سنظل أقوى، لن يستطيع الاحتلال أن يهدم أرواحنا كما هدم بيوتنا، ولا أن يسلب منا حبنا لهذه الأرض، لأنها ليست مجرد مكان، بل قصة صمود، وعنوان كرامة نرفض أن تُنتزع منا، ولأننا نؤمن أن هذا الوجع هو الطريق إلى النصر، فمن بين الدمار سنزرع الزهر وسنرسم المستقبل.