غزة و«الإبادة الجماعية».. الكلمة التي أسقطت أسطورة الاحتلال إلى الأبد

لؤي صوالحة

01 أكتوبر 2025

146

في لحظات مفصلية من التاريخ، تظهر كلمات تتجاوز كل قوة السلاح والرصاص، وتتجاوز كل المؤتمرات والقرارات السياسية، كلمات تحمل في طياتها القدرة على قلب موازين القوة الأخلاقية والقانونية والسياسية في العالم.

اليوم، الكلمة التي هزّت ضمائر البشرية هي «الإبادة الجماعية»، الكلمة التي أصدرتها الأمم المتحدة لوصف ما يجري في قطاع غزة، ليست توصيفًا عابرًا، بل إعلانًا أمميًا رسميًا يضع كل مرتكب، وكل متواطئ، وكل داعم، تحت سقف المساءلة الدولية والإنسانية.

هذا التصنيف الأممي لا يمنح الفلسطينيين مجرد شعور بالاعتراف، بل يفتح لهم أفقًا إستراتيجيًا عالميًا لتحويل ما كان يُكتب على الورق إلى سلاح قانوني وأخلاقي ووسيلة ضغط دبلوماسية، ليصبح الدم الفلسطيني صوتًا لا يمكن تجاهله، ولتصبح القضية الفلسطينية على رأس الأولويات الدولية ليس كصراع إقليمي، بل كمعركة وجودية ضد جريمة ممنهجة ضد الإنسانية.

أولًا: الإبادة الجماعية.. الكلمة التي أسقطت آخر أقنعة الاحتلال:

الإبادة الجماعية ليست مجرد تعبير عاطفي، بل مصطلح قانوني محدد بدقة في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948م، لمنع جريمة الإبادة الجماعية، التي عرّفتها المادة الثانية بأنها: «أية أفعال تُرتكب بقصد تدمير كلي أو جزئي لجماعة قومية أو إثنية أو دينية أو عرقية» (اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، 1948م).

حين تصف الأمم المتحدة ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية، فهي تقول للعالم بصوت صريح: ما يحدث ليس نزاعًا عسكريًا، بل محاولة منهجية لإبادة شعب كامل، هذا التصنيف يضع «إسرائيل» في مصاف الأنظمة المجرمة عالميًا، من النازية إلى التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، بل يتجاوزها بسبب استمرار الإبادة على الهواء مباشرة أمام العالم.

لقد تحولت «إسرائيل»، التي بنت لنفسها صورة الضحية التاريخية، والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، إلى كيان يمارس الإبادة الجماعية علنًا، سقطت أسطورة الديمقراطية الحليفة للغرب، وأصبح العالم أمام واقع جديد؛ دولة لا تحمي حقوق مواطنيها فحسب، بل تُمارس جريمة ممنهجة ضد شعب أعزل محاصر.

ثانيًا: تحويل التوصيف الأممي إلى سلاح إستراتيجي:

الفلسطينيون أمام فرصة تاريخية لتحويل هذا التوصيف الأممي إلى أداة ضغط عالمية عبر 3 مسارات مترابطة:

1- المسار القانوني:

  • رفع دعاوى ضد قادة الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية، استنادًا إلى المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948م.
  • تقديم دعاوى أمام محكمة العدل الدولية ضد «إسرائيل» والدول والشركات المتواطئة التي تزودها بالسلاح أو التمويل.
  • تفعيل الولاية القضائية العالمية لمحاكمة أي مسؤول «إسرائيلي» يسافر إلى أي دولة، كما حدث في محاكمات رواندا والبوسنة.

2- المسار الدبلوماسي:

  • استخدام التوصيف الأممي كغطاء قانوني وأخلاقي لدول العالم لفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على «إسرائيل».
  • بناء تحالفات جديدة مع دول الجنوب العالمي، ودفع الحكومات العربية والإسلامية لتحويل الشجب إلى تحرك ملموس على الأرض.

3- المسار الشعبي العالمي:

  • جعل شعار «أوقفوا الإبادة في غزة» مطلبًا عالميًا في المظاهرات والاعتصامات.
  • ربط القضية الفلسطينية بقضية الإنسانية العالمية، لزيادة الضغط على الحكومات الغربية لوقف الدعم العسكري والسياسي لـ«إسرائيل».

ثالثًا: تفكيك خطاب الاحتلال:

لطالما زعمت «إسرائيل» أنها تدافع عن نفسها، لكن الواقع يفضح الادعاء: قصف المستشفيات والمدارس، قتل آلاف الأطفال والنساء، وحصار غزة الغذائي والدوائي لأكثر من مليوني إنسان، والإبادة الجماعية تسقط كل الروايات.

فما يجري ليس نزاعًا مسلحًا، بل جريمة منهجية ضد شعب أعزل محاصر، بهذا يتحول الاحتلال من دولة ديمقراطية حليفة للغرب إلى كيان إبادة يعاقب عليه القانون الدولي.

رابعًا: شهادات الواقع.. الدم الفلسطيني على الأرض:

الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل أدلة حية على نية الإبادة:

  • مستشفى الشفاء: استهداف مباشر تسبب بمقتل 43 شخصًا بينهم 12 طفلًا.
  • مخيم جباليا: تدمير أحياء كاملة أودى بحياة أكثر من 1200 مدني خلال أسبوعين.
  • حصار غزة: 2.3 مليون شخص محرومون من الغذاء والماء والدواء، يعيش معظم الأطفال تحت شبح الموت اليومي.

هذه الحقائق تُظهر أن الإبادة ليست مجرد تهديد، وإنما واقع يومي، موثق بالصوت والصورة، ومعترف به رسميًا من أعلى هيئة دولية.

خامسًا: دروس التاريخ.. غزة في مرآة الماضي:

حين نقارن غزة بالمآسي الإنسانية السابقة، تتضح الصورة أكثر:

  • سربرنيتسا عام 1995م (البوسنة): أكثر من 8 آلاف مسلم بوسني قُتلوا خلال أيام، وصُنفت لاحقًا إبادة جماعية، وأُحيل القادة إلى العدالة الدولية.
  • رواندا عام 1994م: خلال 100 يوم أُبيد 800 ألف توتسي، وصمت العالم مبدئيًا قبل أن يعترف بالعار لاحقًا.
  • جنوب أفريقيا: سقوط نظام «الأبارتهايد» جاء عبر الضغط الدولي، مستندًا إلى وصفه كنظام عنصري شامل.

غزة اليوم تتعرض لإبادة مباشرة أمام أعين العالم، مع وثيقة أممية رسمية تصف الجريمة، ما يجعل الصمت العالمي مستحيلًا.

سادسًا: تفنيد حجج الاحتلال والداعمين:

  • الدفاع عن النفس؟ لا يمكن للإبادة أن تكون دفاعًا.
  • التهديد الأمني؟ الفلسطينيون محاصرون، بلا جيش ولا سلاح نووي، وهم المدافعون عن وجودهم فقط.
  • التطبيع والدعم الدولي؟ كل دولة أو شركة تواصل دعم «إسرائيل» بعد توصيف الأمم المتحدة تُعد شريكة في الإبادة، وفق القانون الدولي.

سابعًا: خارطة طريق عملية للفلسطينيين:

لتحويل التوصيف الأممي إلى أقوى سلاح سياسي وقانوني، يجب اتخاذ الخطوات التالية:

1- توحيد الخطاب الفلسطيني حول شعار «وقف الإبادة».

2- تفعيل فرق قانونية دولية لرفع ملفات أمام المحكمة الجنائية الدولية.

3- تقديم دعاوى ضد الدول والشركات المتواطئة في محاكم عالمية.

4- تصعيد الضغط الشعبي العالمي عبر حملات إعلامية ومظاهرات في العواصم الكبرى.

5- تحريك الرأي العام العربي والإسلامي لممارسة ضغوط فعلية على حكوماتهم.

6- تفعيل المقاطعة الاقتصادية والسياسية لـ«إسرائيل» على مستوى عالمي.

7- توثيق الجرائم يوميًا بالصوت والصورة لزيادة الضغط الدولي.

8- دمج الرواية الفلسطينية بالبعد الإنساني العالمي، لتصبح قضية كل إنسان حر على الأرض.

ثامنًا: غزة تكتب التاريخ:

توصيف الأمم المتحدة ليس مجرد تقرير، بل حكم تاريخي على «إسرائيل»، غزة لم تُهزم بالقصف، ولم تُكسر بالإبادة، بل كسرت أسطورة الكيان الذي لا يُقهر بكلمة واحدة؛ «إبادة».

اليوم يمتلك الفلسطينيون سلاحًا آخر؛ وثيقة أممية وسيفاً أخلاقياً عالمياً، إذا استُثمرت هذه اللحظة بذكاء، قد تصبح بداية النهاية لأسطورة الاحتلال، وبداية ولادة فلسطين التي لا تُباد.

غزة لم تعد فقط مدينة محاصرة، وإنما رمز عالمي للحق والصمود والعدالة، الدم الفلسطيني صار شهادة تاريخية، لا يمكن تجاهلها، وسيظل صدى هذه الكلمة «إبادة جماعية» يتردد في أروقة المحاكم، وعواصم العالم، وضمائر كل إنسان حر.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة