فلسطين بين الاعتراف الدولي وغياب السيادة.. حقيقة منقوصة أم وهْم سياسي؟
في يونيو 2021م، وبعد معركة «سيف القدس»، أطلق يحيى
السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، الذي استشهد في 17 أكتوبر 2024م،
خطاباً اعتُبر آنذاك أقرب إلى نبوءة سياسية، قال فيه: «خلال أشهر قليلة، لن تزيد
على العام، سنجعل الاحتلال أمام خيارين؛ إما أن نرغمه على تطبيق القانون الدولي
واحترام القرارات الدولية والانسحاب من الضفة والقدس وتفكيك المستوطنات وإطلاق
سراح الأسرى وعودة اللاجئين، وإما أن نرغمه نحن والعالم على هذه الأمور ونحقق
إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس، أو أن نجعل هذا
الاحتلال في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية كلها ونعزله عزلاً عنيفاً
شديداً وننهي حالة اندماجه في المنطقة وفي العالم كله وحالة الانهيار التي حدثت في
كل جبهات المقاومة».
نبوءة السنوار تتحقق.. فالكيان الصهيوني في عزلة دولية والاعتراف
بفلسطين يتسع
اليوم، وبعد سنوات قليلة، يبدو أن ملامح هذه النبوءة
تتحقق تدريجياً؛ إذ تواجه «إسرائيل» عزلة دولية متزايدة وضغوطاً غير مسبوقة، مع
اتساع دائرة الاعتراف بفلسطين كدولة، في مشهد يُعيد صياغة موازين الرأي العام
العالمي تجاه الصراع ويضع الاحتلال في موقع متصادم مع الشرعية الدولية.
الاعترافات الدولية بفلسطين
تُعد القضية الفلسطينية من أكثر القضايا تعقيداً في النظام الدولي المعاصر، حيث تتقاطع فيها أبعاد تاريخية ودينية وسياسية وقانونية، ومنذ إعلان منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988م في الجزائر عن قيام دولة فلسطين؛ تزايدت الاعترافات الدولية بها كدولة وليدة، إلا أن هذه الاعترافات لم تُترجم إلى سيادة كاملة على الأرض الفلسطينية المحتلة؛ ما يثير تساؤلات مشروعة: هل الاعترافات الدولية بفلسطين كدولة تُشكل خطوة تاريخية نحو تحقيق الحلم الفلسطيني بالاستقلال؟ أم أنها مجرد قفزة في الهواء لا تحمل مضموناً عملياً على أرض الواقع؟
في القانون
الدولي، يُعتبر الاعتراف الدولي عملية سياسية وقانونية تقوم بها الدول لإقرار وجود
كيان جديد كدولة ذات سيادة، وعادةً ما يُستند في الاعتراف إلى معايير محددة،
أبرزها وجود إقليم محدد، وسكان دائمون، وحكومة تمارس السيادة الفعلية، وقدرة على
الدخول في علاقات دولية.
الاعترافات ورقة ضغط قانونية تمنح الفلسطينيين أدوات لمواجهة
السياسات «الإسرائيلية» بالمحافل الدولية
تُعرف هذه
المعايير باسم «معايير مونتيفيديو» لعام 1933م، وبالنظر إلى الحالة الفلسطينية،
يتضح أن هناك عناصر متوفرة نسبياً، مثل وجود الشعب الفلسطيني والأرض التي تُعرف
بحدود الرابع من يونيو 1967م، فضلاً عن مؤسسات سياسية وإدارية كالرئاسة والحكومة
والمجلس التشريعي، لكن في المقابل، الاحتلال «الإسرائيلي» يُقيّد السيادة
الفلسطينية ويُضعف عنصر السيطرة الفعلية على الأرض والموارد.
لم يعد الاعتراف بدولة فلسطين بعد «طوفان الأقصى» خطوة رمزية عابرة، بل تحوّل إلى موجة عالمية تتسع يوماً بعد آخر، فحينما أعلنت فرنسا ومعها بلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وموناكو وأندورا وسان مارينو انضمامها إلى الدول التي اعترفت رسمياً بفلسطين، بدا المشهد وكأنه محاولة متأخرة لتصحيح ميزان العدالة المختل منذ عقود، جاء ذلك بعد اعتراف مشابه من بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال، ليعكس أن الرؤية الدولية لمستقبل الصراع لم تعد أسيرة للرواية «الإسرائيلية» وحدها.
لذا، شهدنا أن الاعتراف ليس مجرد قرار سياسي فحسب، بل جاء مترافقاً مع لغة إدانة صريحة للإبادة المستمرة في غزة منذ نحو عامين، وكأن المجتمع الدولي يحاول أخيراً أن يواجه الحقيقة بجرأة أكبر وكأنها إعلان التزام بضرورة البحث عن تسوية عادلة تعيد للفلسطينيين حقهم الطبيعي في دولة مستقلة.
لكن في المقابل، ما زالت قوى دولية مؤثرة مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، ومعظم الدول الغربية، ترفض الاعتراف بفلسطين بحجة أن هذا الاعتراف يجب أن يأتي في إطار تسوية نهائية للنزاع مع «إسرائيل».
المقاومة الفلسطينية هي من أعادت القضية الفلسطينية لأن تكون في
صدارة الاهتمام العالمي
وبالنظر الى
دلالات الاعترافات الدولية من زوايا متعددة، يتضح أنها اعترافات رمزية سياسية
ومعنوية؛ لأن الاعتراف يُعتبر تثبيتاً للهوية الفلسطينية على الخريطة الدولية،
ويُضفي شرعية على كفاح الشعب الفلسطيني، وهي ورقة ضغط قانونية ودبلوماسية تمنح
الفلسطينيين أدوات لمواجهة السياسات «الإسرائيلية» في المحافل الدولية، كما
تُمكّنهم من رفع قضايا ضد الاحتلال، ويثبت إضعافاً للرواية «الإسرائيلية»، فكلما
اتسعت دائرة الاعتراف بفلسطين تضاءل الادعاء «الإسرائيلي» بأن القضية لا تزال «خلافاً
على الأرض» وليست قضية حقوق وطنية لشعب، إلا أن هذه الاعترافات تبقى منقوصة في
غياب سيطرة فعلية على الأرض ومؤسسات دولة كاملة السيادة.
القيود والواقع الميداني
رغم حجم
الاعترافات الدولية، فإن الواقع الفلسطيني ما زال بعيداً عن الاستقلال، فالاحتلال «الإسرائيلي»
يفرض سيطرته على نحو أكثر من 60% من أراضي
الضفة الغربية (مناطق «ج»)، ويتحكم بالحدود والمعابر والمجال الجوي، ومن جانب آخر «الفيتو»
الأمريكي في مجلس الأمن يحول دون منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة،
عدا عن التوسع الاستيطاني المستمر الذي يلتهم مساحات واسعة من الأرض المخصصة
لإقامة الدولة الفلسطينية، فهذه القيود تجعل الاعترافات الدولية أقرب إلى قفزة في
الهواء ما لم تُترجم إلى تغيير جوهري على الأرض.
أبعاد سياسية وإستراتيجية
من الناحية
السياسية، الاعترافات الدولية تُشكل جزءاً من إستراتيجية فلسطينية للالتفاف على
انسداد أفق المفاوضات أو الحل النهائي، فبعد فشل مسار «أوسلو» وتراجع الدعم
الأمريكي لأي حل عادل، أصبح الرهان على المجتمع الدولي وسيلة لإحراج «إسرائيل»
وعزلها دبلوماسياً، لكن من منظور آخر هناك حسابات إستراتيجية معقدة.
بعض الدول
الأوروبية ما زالت مقتنعة بأن يؤدي الاعتراف بفلسطين إلى نسف ما تبقى من فرص «حل
الدولتين»، فالولايات المتحدة ترى في الاعتراف خطوة أحادية الجانب تهدد حليفتها «إسرائيل»،
والأخيرة تعتبر الاعترافات الدولية غير ذات قيمة، وتتعامل معها بتجاهل ما دام
الوضع الميداني يخدم مصالحها.
بين القفزة والحقيقة
يبقى السؤال
الجوهري: هل الاعترافات الدولية بفلسطين تُشكل حقيقة سياسية، أم مجرد قفزة في
الهواء؟
إذا نظرنا من
زاوية القانون الدولي، فإن الاعترافات تُعطي فلسطين مكانة قانونية معتبرة وتُعزز
شرعيتها كدولة حتى لو لم تتحقق السيادة الكاملة بعد، أما من زاوية الواقع السياسي
والميداني، فإن غياب السيطرة على الأرض والانقسام الداخلي يُحوّل الاعترافات إلى
رمزية أكثر من كونها واقعاً ملموساً؛ بمعنى آخر، الاعترافات الدولية ليست بلا قيمة
لكنها ليست كافية وحدها لتحقيق الدولة الفلسطينية، فهي تُشكل «حقيقة قانونية» لا قفزة
سياسية ما لم تترافق مع خطوات عملية على الأرض.
آفاق المستقبل
المشهد
المستقبلي للاعترافات الدولية بفلسطين يعتمد على عدة عوامل، من أهمها أن المقاومة الفلسطينية هي من أعادت القضية الفلسطينية لأن تكون في صدارة الاهتمام العالمي؛
لذا أصبح هناك قرار في الموقف الأوروبي بعد تضارب القانون الدولي مع إجرام
الاحتلال «الإسرائيلي» غير المسبوق في العصر الحالي؛ لذا أصبح هناك قرار داخل دول
أوروبية كإسبانيا وبريطانيا وفرنسا وأيرلندا والنرويج وغيرها للاعتراف الرسمي
بفلسطين كدولة خلال أيام، ما قد يُشكل تحولاً نوعياً، وهذا سيخلق تحولات إقليمية
كعودة الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية، خاصة بعد تصاعد حرب الإبادة «الإسرائيلية»
وهو ما سيُعيد الزخم للمسعى الفلسطيني.
الدولة الفلسطينية اليوم موجودة كفكرة شرعية معترف بها دولياً
لكنها غائبة كسيادة عملية على الأرض
ومن جانب آخر،
المجتمع المدني الدولي، فحركة المقاطعة (BDS) وتضامن
الشعوب تُساهم في خلق ضغط متزايد على الحكومات للاعتراف بفلسطين، وكذلك الوضع
الفلسطيني الداخلي، فنجاح الفلسطينيين في إنهاء الانقسام وإعادة بناء مؤسساتهم
سيُعزز مصداقية فكرة الدولة أمام المجتمع الدولي.
يمكن القول: إن
الاعترافات الدولية بفلسطين كدولة ليست مجرد قفزة في الهواء، وليست أيضاً حقيقة
مكتملة؛ لذلك تعتبر خطوة في منتصف الطريق تحمل دلالات سياسية وقانونية مهمة، لكنها
تصطدم بواقع ميداني يهيمن عليه الاحتلال.
فالدولة
الفلسطينية اليوم موجودة كفكرة شرعية معترف بها دولياً، لكنها غائبة كسيادة عملية
على الأرض، والتحدي الأكبر أمام الفلسطينيين والمجتمع الدولي تحويل هذه الاعترافات
إلى واقع ملموس يضع حداً لعقود من الاحتلال والمعاناة، ويُجسد حلم الشعب الفلسطيني
في الحرية والاستقلال.