في سبيل فلسطين قطعنا ربع محيط الأرض (2 - 2)
ولكن ما لي
أستعجل بسرد هذه الأخبار وأنا لم أفتح بعدُ صفحة الرحلة ولم أعرّف بها؟ عليّ أولاً
أن أتكلّم عن السفر إلى المؤتمر ومَن دعا إليه، وعمّا كان فيه وكيف جرّني إليه
الصواف ... ولست أدري الآن كيف استطاع ذلك وجَرُّ جبل أُحُد أهونُ من جَرّي،
وحلحلة «ثهلان ذي الهضبات» الذي ذكره الفرزدق (ولا أعرف أين مكانه)(1)
أهون من زحزحتي أنا عن مكاني!
لقد كنت ألقي في
تلك الأيام حديثاً أسبوعياً من إذاعة دمشق بعد صلاة الجمعة، يتفضّل السامعون
بالإقبال عليه كما يتفضّل الناس هنا بسماع حديثي في الإذاعة وفي الرائي، كرماً
منهم لا لأن أحاديثي تستحقّ هذا الاهتمام.
انقطعت عن هذا
الحديث نحواً من ثمانية أشهر، ثم عدت فحدّثت السامعين عن هذه الرحلة؛ وصفت فيها
مراحلها مرحلة مرحلة، أَرَيتُهم ما رأيت وأسمعتُهم ما سمعت ونقلت إليهم ما شعرت به
حتى كأنهم كانوا فيها معي.
مأساة القدس والقرى الأمامية
حدّثتهم عن
فلسطين التي رأيتها يومئذ حديثاً لا يعرفونه وهم جيران فلسطين، عن القدس والقُرى
الأمامية يوم كانت المشكلة مشكلة القدس، حين أخذوا أحياءها الجديدة فأعطوها اليهود
وتركوا لنا القدس العتيقة بأزقّتها. وكانت مشكلة القرى الأمامية: قَلْقيلية
وأمثالها التي أخذ اليهود بساتينها وزرعها وتركوا للناس بيوتها وصخرها، فصارت
المشكلة الآن أنهم أخذوا حتى القدس القديمة وحتى القُرى الأمامية!
مشاهد المشرق والحضارات التاريخية
حدّثتهم عن
بغداد وعظمتها، بغداد التي عرفتم أني عشت فيها من عمري سنين، فلما عدت إليها بعد
خمس عشرة سنة (أي سنة 1954) رأيت بغداد غير التي تركت فلم أكَد أعرفها. عن الموصل
التي يُحِسّ الشامي فيها أنه في الشام أو في حلب على التخصيص من مدن الشام، عن
البصرة، بندقية العرب(2) ومفتاح الشرق. عن باكستان، البلد المتوثّب
الناهض الذي لم يكن مضى على استقلاله إلاّ سبع سنين. عن الهند، والهند دنيا من
الأجناس والألوان والعجائب. عن ماليزيا، عن سيام (تايلاند) التي يسكن أهلها في
بيوت تراها من بعيد كأنها ألاعيب الأطفال ولا ترى فيها إلا ضاحكاً، عن إندونيسيا
بلاد الماء والخضرة والجمال.
عن الشرق الغنيّ
بطبيعته وناسه وأرضه وسمائه وماضيه ومستقبَله، فالطبيعة كلها كنوز: معادن وزيوت
وشلاّلات، وثروات لا تنفد، والناس بعدد حبّات الرمل، والملايين فيه كالآلاف عندنا
أو المئات، والسماء تسطع بالنور وتقطر بالخيرات، والأرض خصب ونبات وحقول وغابات
ورياض وجنّات؛ ما رأينا من كراتشي إلى سورابايا في آخر جاوة بقعة واحدة جرداء.
حدّثتهم عن الشرق الغنيّ بالماضي الفخم يوم كانت الحضارة فيه وكان فيه العلم وكانت
فيه القوة وكان له في الأرض السلطان، وعن المستقبل الفخم الذي سيرجع إن شاء الله
ذلك الماضي، والذي بدَت تباشيره وظهرَت بواكيره حين لم يبقَ في آسيا كلّها من جحيم
الاستعمار إلاّ شُعَل صِغار لا تزال هنا وهناك؛ لقد أطفأَت أيدي الشرقيين تلك
النار وأقامت مكانها جنّات تجري من تحتها الأنهار، لقد تحرّر الشرق ولن يعود إن
شاء الله إلى الرّق أبداً.
لقد انتهى عهد
الاستعمار الذي كانت ترفرف راياته فوق أرضنا وتخطو جنوده على ثرانا، وخَلَفه
استعمار آخر شَرٌّ منه، لا يحمل أخطارَه غرباء عنّا ولكن ناس منّا من أبنائنا،
أخذهم الاستعمار فربّاهم على ما يريد هو فأتمّوا ما بدأ به، بل سبقوه وجاؤوا بما
لم يقدر على أن يأتي بمثله.
ولكن ذلك إن شاء
الله لا يدوم.
حدّثتهم عن
الفتوح الإسلامية الثلاثة في الهند: الفتح العربي؛ لقد سلكتُ طريقه الذي سلكه
ومشيت من حيث مشى، وتتبعت آثار أقدام الجيش الذي خرج من دياره في أرض الحجاز يقوده
الفتى العربي، ابن الطائف الذي فارق منازل أهله فيها ومشى ومشى ومشى، حتى جزع
الأرض إلى موضع كراتشي اليوم. وأين أنت يا طائف من كراتشي؟ وكان الجندي يشري زاده
بنفسه، وراحلته يشريها بنفسه أو يمشي على رجلَيه، وكان يصبر على الحر والقر والجوع
والعطش، وكان مع ذلك كله يدعس (لا يدهس كما تقول الصحف) في طريقه كل قوة تعترضه
وكل قلعة وحصن حتى بلغ الهند. ذلك الفتى هو محمد بن القاسم الثقَفي الذي لم يَزِدْ
عمره يومئذ عن سبع عشرة سنة، وهي سنّ تلميذ في الصف الثاني الثانوي!
والفتح
الأفغاني، حين استعاد السلطان محمود الغزنوي ما فتح ابن القاسم، ثم حاز من الهند
ما لم يَحُزْه قبله فاتح. ثم الفتح المغولي، فتح بابر وأحفاده الذين ملكوا الهند
كلها، وكان منهم الإمبراطور «أكبر» الذي كفر في آخر عمره وأكره الناس على الكفر،
ولفّق ديناً جديداً ما أنزل الله به من سلطان، فمحا الله هذا الدينَ الملفّق
الجديد وبقي الإسلام إلى يوم القيامة. وكان من أحفاده شاه جيهان، أحد أعظم
البنّائين من الملوك، الذي ترك أجمل أثر عمراني على وجه الأرض هو «تاج محل». ثم
جاء منهم الملك الصالح «أورانك زيب» الذي ملك من الهند ما لم يملكه أحد، والذي جمع
الحزم والعزم والتقى والصلاح والعلم والأدب، وكان خطّاطاً لا يجاريه إلاّ كبار
الخطّاطين، ذلك الذي لا أعرف بعد الخلفاء الراشدين وبعد عمر بن عبد العزيز، وبعد
نور الدين وصلاح
الدين وأمثالهم من الملوك الصالحين الكبار من هو أصلح منه.
ومَن أراد أن
يعرف قصّة «تاج محل» وذلك الحبّ الخالص وذلك الوفاء العجيب الذي حمله شاه جيهان
لزوجته المحبوبة الجميلة التي ماتت في شبابها وفي فتنتها وجمالها «ممتاز محل»، ومن
أراد خبر أورانك زيب (هذا الملك الصالح) وجد ذلك في كتابي «رجال من التاريخ»(3).
حدّثتهم عن آثار
المغول في قلب دهلي، عن القلعة الحمراء التي لا تزال آية في القوّة وفي الرشاقة
بناها باني المسجد الجامع شاه جيهان. حدّثتهم عن كلكتا التي كان فيها بمقدار ما
كان في سورية ولبنان والأردن معاً يومئذ من السكان، وكان الناس فيها من بني آدم
يَجرّون عربات الركوب والحمل بدلاً من أن تجرّها الحيوانات، والبقر تمشي تتبختر في
الشوارع لأنها مقدسة معبودة لا يعرض لها أحد بسوء!
عن لكنَو (التي
فيها ندوة العلماء)، عن ديوبَنْد (التي فيها «أزهر» الهند)، عن عروس المدائن
بومباي.
ثمانية أشهر، كم
دخلت فيها من بلدان وكم لقيت من ناس، وكم شاهدت من عجائب وغرائب ولطائف وطرائف!
وما نسيت
بلدي على هذا
كلّه يوماً ولا خمد الشوق إليها ساعة، وكان في قلبي وعلى لساني دائماً بيت الشريف:
وقائلةٍ في
الرّكْبِ ما أنتَ مُشتهٍ؟ غداةَ
جزَعْنا الرملَ، قلتُ: أعودُ
لقد عدت وفي
جعبتي مئات من الصور، من كلّ طريف مُعجِب وكل طريف مُطرِب، نثرت عليهم أكثرها
وجلّيتها لهم في أحاديثي فرأوا جديداً لا يعرفونه. ولو أنني رجعت من أوربّا
وأميركا وفتّشوني لما وجدوا معي عجباً لأنهم يعرفون ألوان الحياة في أوربّا
وأميركا، يعرفونها من السينمات والأفلام، ومن الكتب والمجلاّت، ومن ألسنة الراحلين
إليها. أمّا بلاد المشرق فما كنت أعرف أنا ولا يعرفون هم من أمرها إلا القليل؛ لم
يكن قد زار إندونيسيا قبلي من السوريين إلاّ نفر قلائل، والذين كتبوا عنها أقلّ.
هذه الأحاديث
التي أذعتها لم أكتبها، وقد ضاع أكثرها فيما ضاع ممّا حدّثت به(4).
أقول هذا وقلبي يملؤه الأسف. وما جدوى الأسف على ميت قد مات ولن يعود إلى الحياة؟
فهل أستطيع الآن
(بعد ثلاثين سنة كاملة) أن أتذكّر ما كان في هذه الرحلة؟ أن أصف ما رأيت؟ أن أروي
ما سمعت؟ أن أُسَمّي من عرفت من أفاضل الرجال؟ هل أستطيع ذلك؟ سأجرّب وعلى الله
الاتكال، ومنكم صالح الدعوات.
اقرأ أيضاً:
في سبيل فلسطين قطعنا ربع محيط الأرض (1 - 2)
_____________________
(1) ذكره أهل
الأخبار والأشعار، وقال ياقوت إنه في العالية (أي عالية نجد) أو إنه في بلاد بني
نمير. وفي الكتاب النفيس للشيخ محمد بن بليهد، «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من
الآثار» (الذي طبع منذ ستين سنة وصار اليوم من النوادر، ولا أدري لماذا لا تُعاد
طباعته)، أنه باق على اسمه إلى اليوم، ويبدو من وصف الشيخ أنه قريب من بلدة
الدوادمي المعروفة. انظر صحيح الأخبار (1/ 102) (2/ 164) (مجاهد).
(2) انظر في
كتاب «رجال من التاريخ» مقالة «بقية الخلفاء الراشدين» ففيها خبر أورانك زيب
وتفصيلات عن تاريخ المسلمين في الهند لا يعرفها عامة الناس، وفي مقالة «الملك
الصالح» طرف آخر من هذه الأخبار (مجاهد).
(3) أي مدينة
البندقية في إيطاليا.
(4) بعض هذه
الأحاديث نجا من الضياع فخرج منه كتاب «في إندونيسيا» الذي طُبع أول مرة سنة 1960م،
وكانت نيّة جدي رحمه الله أن يجعل ذلك الكتاب جزءاً من تاريخ الرحلة ثم يُتبعه
بآخر يخصصه لأخبار الباكستان والهند (وقد أمضى فيهما شطر رحلته)، لذلك حمل كتاب
«في إندونيسيا» في طبعته الأولى هذا الإعلان في آخر صفحة من صفحاته: "ارتقبوا
كتاب علي الطنطاوي: «في السند والهند»، وهو يصدر قريباً إن شاء الله". ثم مرت
الأيام ولم يصدر الكتاب.
المصدر: كتاب
«ذكريات».