الصمت القاتل بين البريق والواقع..
لماذا يلجأ شباب الخليج للعلاج النفسي؟
في السنوات
الثلاث الأخيرة تحديدًا، قفزت معدلات القلق والاكتئاب بين الشباب في السعودية بشكل
خاص، والخليج بشكل عام، إلى مستويات غير مسبوقة.
يشير تقرير
«الصحة النفسية في الخليج» الصادر عن مجلس الصحة لدول مجلس التعاون لعام 2023م،
إلى أن ما يقرب من 18% من الشباب الخليجي تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا يعانون
من أعراض مستمرة للقلق أو الحزن العميق.
وفي دراسة أخرى
أجرتها وزارة الصحة السعودية عام 2022م، تبيّن أن 35% من مراجعي العيادات النفسية
في المملكة دون سن الثلاثين.
هذا الارتفاع
ليس عابرًا أو حالة فردية، بل هو ظاهرة اجتماعية صامتة تتنامى تحت السطح، حيث
نشاهد شبابًا ناجحين، لامعين، حاضرين في كل منصّة، يبدون من الخارج وكأنهم يمسكون
بزمام نجاحاتهم، لكن الحقيقة أن كثيراً منهم يعيش معركة داخلية مرهقة لا يسمعها
أحد إلا حين يخفت ثم يتلاشى كل هذا البريق.
تقارير صادرة عن
منظمة الصحة العالمية بشأن واقع الصحة النفسية في إقليم شرق المتوسط، تؤكد أن
اضطرابات القلق والاكتئاب في الخليج شهدت زيادة بنسبة تتراوح بين 15% و19% خلال 5
سنوات.
ومن جهة أخرى،
تشير دراسات «يونيسف» الإقليمية إلى أن أنظمة الدعم النفسي دخلت مرحلة إعادة تنظيم
بعد جائحة كورونا، مع ارتفاع الطلب على خدمات الرعاية النفسية لدى فئات الشباب
والمراهقين.
اقتصاد
الإنجاز
أوّل تلك
الأسباب هو ما يسميه الخبراء اقتصاد الإنجاز والضغوط المهنية، بمعنى أن شباب
الخليج يعيشون في بيئة تتوقع الإنجاز السريع، حيث وظائف تنافسية، وساعات عمل
طويلة، وطموح اجتماعي يجعل البطء مهينًا.
هذا الواقع،
وفقاً للخبراء، أنتجه تحول اقتصادي واجتماعي سريع، ونتيجته شعور دائم بالفشل
والقلق لدى الفئة المطالبة بمسايرته دون قدرة على ذلك، وهذا ما تؤكده على سبيل
المثال بيانات المسح الوطني في السعودية، التي رصدت ارتفاع حالات الضغوط النفسية
بين فئة 18–35 عامًا.
يرى الخبراء
كذلك أن من أسباب زيادة تلك الحالة وتناميها بين فئة الشباب، ما سموه بالمقارنة
الرقمية، أو ما يمكن أن نطلق عليه «لمعان الشاشات».
فالصورة
المصفوفة على منصات التواصل تمنح انطباعًا دائمًا بأن الآخرين أكثر نجاحًا وأكثر
سعادة؛ ما يضخم شعور النقص ويؤدي إلى اضطرابات ومقارنات لا تتوقف، وهذا بالمناسبة
ما أكدته دراسات إقليمية ربطت بين الوقت الذي يقضيه الشاب أمام الشاشة ومستويات
القلق والاكتئاب عند الشباب والمراهقين.
أيضاً يعزو
الاختصاصيون تلك الحالة إلى التصدع الكبير في مستويات الدعم الأسري، فليس المهم أن
يعيش أفراد الأسرة معًا، بقدر أهمية أن يتحدثوا ويعبروا، ويتفهموا شكاوى أبنائهم،
فغياب مساحات الحديث أو الخوف من الحكم الاجتماعي يجعل المشاعر تُخزن حتى تنفجر
لاحقًا في شكل أزمات نفسية أو نوبات هلع، وهناك دراسة صادرة عن جامعة الشارقة
العام 2021م، تشير إلى أن 62% من الشباب الخليجي يصفون تواصلهم داخل الأسرة بأنه
شكلي أو محدود.
كيف يبدو الألم من الداخل؟
على مستوى الجرح
الداخلي لهذه الفئة، يرى الاختصاصيون أن القاسم المشترك بين الجميع هو حالة الصمت
المطبق، حيث ترى الشاب يبتسم في الصباح ويتحاشى سؤال والده عن حاله؛ لأنه خائف أن
يُثقل بالهموم، هذا الصمت ليس هدوءًا، بل طبقة رقيقة تغطي اشتعالًا داخليًا سيخرج
لا محالة للعلن في لحظة ما.
هناك أيضاً لدى
هذه الفئة حالة يمكن تسميتها «خسارة المعنى»؛ حيث الأعمال رتيبة، والعلاقات سطحية،
وفراغ يرافقه أرق، وصعوبة في اتخاذ القرارات.
كذلك، فإن تلك
الفئة يكون لديها إفراط في الحلول السريعة، ولجوء إلى النوم كثيرًا أو الشاشات، أو
تعاطي مهدئات غير منظورة، بدل مواجهة أصل الأزمة، وهنا يصبح العلاج المهني ضرورة؛
لأن الخلل عميق ويتداخل مع وظيفة الفرد وحياته الاجتماعية.
الطريق إلى التعافي
هناك عدة خطوات
لهذا التعافي حددها الخبراء وأهل الاختصاص، منها:
أولاً: الاعتراف
بالاحتياج، فمجرد قول «أشعر أنني محتاج لمساعدة» هو بداية علاجية، فكثير من الشباب
يصفون لحظة الاعتراف بأنها سقوط القناع، ومن بعدها يبدأ التعافي.
ثانيًا: التأكيد
على أن العلاج النفسي الحديث ليس ترفًا، بل مهارة حياة، فالعلاجات المعرفية
السلوكية، وجلسات العلاج النفسي القصيرة أثبتت فاعلية في خفض أعراض القلق
والاكتئاب وتحسين جودة الحياة.
ثالثًا: التكامل
بين الدعم المهني والدعم الروحي، فليس ثمة تصادم بين العلم والدين هنا؛ وإنما
تلاقٍ، الحديث الصادق داخل إطار ديني ووجداني يمنح المريض متنفسًا روحيًا، بينما
يبني المعالج أدوات عملية لإدارة القلق.
من وصمة إلى وعي
اليوم، العيادات
ليست حصونًا سرية كما كانت في الماضي، الاتجاه الآن هو خدمات صحية نفسية متكاملة
داخل المستشفيات، مراكز الرعاية الأولية، ومنصات رقمية توفر جلسات نفسية عن بُعد.
تقارير وزارة
الصحة السعودية تشير إلى توسع في برامج الصحة النفسية وإضافة خدمات إلكترونية
لتيسير الوصول، وبالتالي فإن نظرة المجتمع تتغير تدريجيًا؛ فالعلاج النفسي لم يعد
«جنونًا»، بل وسيلة إنسانية لإنقاذ النفس قبل أن تنطفئ.
نحن إذن أمام
جيل يُطلب منه أن يلمع دائمًا، أن يبتسم دائمًا، أن يثبت نفسه دائمًا، دون أن
يُسمح له بالتعب.
إن لم نتعلم كيف
نصنع للروح ظلًا وراحة، ستظل المعارك تُدار في الداخل بصمت، ثم تنفجر في وجه
المجتمع الذي لم يحسب لهذه اللحظة حساباً.
اقرأ
أيضاً:
جيل خليجي
يختار العزوف عن الزواج!
الرفاهية في
الخليج.. حين تتحول النعمة إلى نقمة