ما جدوى تجديد التوبة مع تجدد الذنب؟
1- ما معنى التوبة؟
أورد البَغَوي عدة تعريفات للتوبة، في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) (التحريم: 8)؛ منها:
- التَّوْبَةُ النَّصُوحُ بأَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَى
الذَّنْبِ، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ.
- هِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى؛ مُجْمِعًا عَلَى
أَلَّا يَعُودَ فِيهِ.
- أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ، وَيُمْسِكَ
بِالْبَدَنِ.
- الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاعُ بِالْأَبْدَانِ،
وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ بِالْجَنَانِ، وَمُهَاجَرَةُ سَيِّئِ الْإِخْوَانِ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ
مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» (رواه الترمذي)؛ والغرغرة بلوغ الروح الحُلقوم، وكذلك قال
الله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ
فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {17}
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ
وَهُمْ كُفَّارٌ) (النساء)، فالثابت في الشرع أنّ باب
التوبة مفتوح حتى يدرك الإنســــانُ العاصــي المـــوتَ، وقبل أن تبلُغ الروح
الحلقوم.
2- أثر تكرار التوبة في إضعاف سطوة الهوى على النفس:
التوبة من الرياضات الشرعية الأساسية، فمن حيث هي رياضة يجري عليها قاعدة الحِلم
بالتّحلّم، لا بد فيها من المِران والتدريب والتكرار لتؤتي ثمارها، ومن حيث هي
شرعيّة فهي عبادة مأمور بها ومعلوم قدرها وأثرها.
فتكرار التوبة، سواء من نفس الذنب أو من ذنب غيره، له أثر أكيد في إضعاف
سلطان الهوى وسطوة الذنب على صاحبه، حتى يتحرر منهما شيئًا فشيئًا، وتتحقق له
التوبة النصوح بدون عودة، فمع كل تكرار للتوبة يتفعّل أثر جديد في النفس يبني على
أثر التوبة السابقة، لكنّ الجهل بهذا التصور أو الغفلة عنه يجعل التائب يتململ
وييأس سريعًا، إذا لم يشهد الأثر الحاسم فورًا.
الرسم التالي يحلل ذلك الأثر التدريجي المتنامي لتكرار التوبة، لبيان أهمية المثابرة والمصابرة، واليقين بثمارها المتقررة في الشرع:
وكما أن الافتتان بلَذّة الهوى وزينة الذنب يكون حقيقياً وقت مواقعته، كذلك
يصدق الشعور بالندم والكدر من التفريط الذي يحضُر وقت التوبة، فالقصد أنّ الصدق في
كل حال على حِدَة لا ينقض الآخر بالضرورة، وإنما العبرة بمن يَغلِب آخِرًا ومن
يَستحوذ ختامًا على قلب المؤمن، فالتوبة والإنابة علامة حياة القلب وكراهة الذنب،
وهي حاجز الوقاية من رِبْقَة الإصرار على الذنب وخطّ الدفاع الأخير أمام النفس
الأمّارة والشيطان الرجيم، فمن جَرَّد نفسه منها ماذا بقي له ليتترَّس به؟!
ومن مداخل التثبيط عن الخير إيعاز النفس أو وسوسة الشيطان للمُذنِب الذي
يعاود الذنب رغم توبته، أنّ توبته غير مقبولة أو أنه لا خير فيه، وبالتالي لا جدوى
من التوبة أصلًا، بل وعليه الاستمرار في المعصية والإمعان في الانجراف، عقوبة له
على عدم استحقاقه للخير وعدم حيائه من الله! وكلّ هذه خواطر سوء وأفهام سوء، وشرع
الله واضح صريح في ضرورة المثابرة على التوبة والاستمرار عليها، وتأمّل حين تعكس
المعادلة فيعتدل لك الفهم المقلوب، بأن تجعل التوبة هي الأصل عند المؤمن والمعصية
طارئة عارضة، مهما ألحّت أو طنّت حتى حين.
لذلك، بدل النظر للمعادلة على أنها تكرار المعصية رغم التوبة، استَحضِر
أنها تكرار التوبة رغم المعصية! وبدل الإغراق في الإحباط لمعاودة الذنب بعد التوبة
بما قد يدفع لليأس وترك التوبة بالكليّة، استحضر بشرى أنّ الله جعل للعبد فُرجة
توبة ما عاش، مهما أسرف على نفسه، ومهما كان الذنب الذي واقعه أو عاوده!
3- التوبة أدب مع الله تعالى:
من إساءة الأدب مع الله تعالى أن يصر العبد على إغلاق باب فتحه الله تعالى
له! فالله تعالى هو الذي يحول بين المرء وقلبه ويهديه إليه، وهو الذي كلّف العبد
أن يقف على باب الرب مُشفقًا راجيًا سائلًا! والله لا يملّ من ذنوب عباده وتوبتهم
منها حتى يملّ العباد أنفسهم من توبتهم ويألفوا المعصية! فما دمتَ تستغفر فهو
يغفر، وما دمت ترجع إليه فهو يفرح بعودتك، كذا قضى ربك فلا تعاند قضاءه بالتأول
عليه! وإن من أسمائهِ جلّ وعلا التوّاب؛ أي الذي يُوفّق عباده إلى التوبة، ويبعث
في قلوبهم الرغبةَ فيها أو الرهبة من تفويتها، فإنّ العبد لم يكن ليتوب لولا توفيق
الله عز وجل لذلك.
وعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ إِبْلِيسُ:
وَعِزَّتِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ،
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا أَزَالُ أَغْفِرُ
لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي» (رواه أحمد)، وجاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، أَحَدُنا يُذنب، فقال صلى الله عليه وسلم: «يُكتَب عليه»، قال
الرجل: ثمّ يَستغفِر منه، قال: «يُغفَر له ويُتاب عليه»، قال: فيعود فيذنب، قال: «يُكتَب
عليه»، قال: ثمّ يستغفر منه ويتوب، قال: «يُغفَر له ويُتاب عليه، ولا يَملُّ الله
حتّى تملّوا» (رواه الحاكم).
وقيل للحسن البَصريّ: ألا يستحي أحدنا من ربّه، يستغفر من ذنوبه ثم يعود،
ثم يستغفر ثم يعود؟! فقال: ودَّ الشيطان لو ظَفِر منكم بهذا، فلا تملُّوا من
الاستغفار. (ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحِكَم).
كذلك من إساءة الأدب مع رحمة الله في سَعَة فتح باب التوبة على مصراعيه،
اتخاذها رخصة للذنوب وتهاونًا بخطر العصيان، وإنما القصد من فتح الباب غير المشروط
الحث على التوبة مع تقوية خطوط الدفاع، وطمأنة المؤمن لعدم القنوط من رحمة ربه
لاستِعظَامه قَدرَ ذنوبه في نفسه، فالاعتدال بين الكِفَّتين مطلوب، وحُسن تقدير
كلٍّ من خطر الذنب وأثر التوبة حقَّ قَدرِهما لازم، وهذه الموازنة تقوّي دوافع
الاستمساك بالتوبة والطاعة والتخفف من الهوى ونبذ المعصية.
وأورد المُبارَكْفُوريّ في شرحه للحديث الذي رواه الترمذيّ: «وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ
بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُم»: لَيْسَ فِي
الْحَدِيثُ تَسْلِيَةً لِلْمُنْهَمِكِينَ فِي الذُّنُوبِ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ
أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا بُعِثُوا لِيَرْدَعُوا النَّاسَ عَنْ غَشَيَانِ
الذُّنُوبِ، وإنما الحديث بَيَانٌ لِعَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَاوُزِهِ عَنِ
الْمُذْنِبِينَ لِيَرْغَبُوا فِي التَّوْبَةِ.
وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ كَمَا أَحَبَّ
أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْسِنِينَ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنِ الْمُسِيئِينَ؛
وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَسْمَائِهِ: الْغَفَّارُ،
الْحَلِيمُ، التَّوَّابُ، العفو.. فأراد النبي صلى الله عليه وسلّم به: أنكم لو
كنتم مجبولين على ما جُبِلَت عليه الملائكة لجاء الله بقوم يتأتّى منهم الذنب فيتجلّى عليهم بتلك الصفــات على مقتضى الحكمة؛
فإن الغفَّار يستدعي مغفورًا، كما أن الرزَّاق يستدعي مَرزوقًا. (تُحفة
الأَحْوَذيّ شرح جامع الترمذي).
هذا، وما من ذنب إلا وجعل الله منه مخرجًا ما دامت حياة، فمن الخطّائين مَن
يطلب المخرج من الذنب بالتوبة، ومن الخطّائين مَن يُذنب بالخروج من الطلب ونبذ
التوبة! والعاقبة للتوابين.