ثمَّ كذَّبوك يا محمد ﷺ (10)

ما قلَّمَ أظافر اليهود إلا محمد ﷺ

أشَعرْتَ بلسع الجوع أيها الجليل، وأخبر الخبير عز وجل حبيبك صلى الله عليه وسلم بأمرك، هل تركك صلى الله عليه وسلم فريسة للهب الجوع ليحرق جوفك؟ حاشاه صلى الله عليه وسلم ثم حاشاه، فما تركك إلَّا بعد أن أشبعك وأوفرك حتى قلت له: «والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا»!

فما بال أكثر من مليار مسلم يا أبا هريرة يتشدقون باتباع حبيبك صلى الله عليه وسلم والكثير منهم يملك وفرة من المال، والمنصب، والسلطان ويتركون أهل غزة للهيب الجوع ولقتله إياهم بالجملة؟ حيث تعدَّت الدناءة كل السلوكيات الدنيئة واسْتُخْدِم الجوع كآلة حرب!

ما رأي المسلمين الذين يتركون أهل غزة للقتل الجماعي بسبب لقمة أو شربة ماء لو نظروا في أمرك يا أبا هريرة مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، أحني هامتي إجلالًا لك مستأذنًا في أن أسوق خبرك هذا إلى أصحاب المال والمنصب والسلطان.

أبو هريرة رضي الله عنه ذلكم الرجل الذي كثيرًا ما سمعنا عنه وما رأيناه، وإن لرواياته لمذاقًا جميلًا في الأسماع حتى ملك حبه منا شغاف القلوب، ولم لا وقد روى رضي الله عنه بنفسه، قلت: يا رسول الله ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إليَّ، قال: فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب عُبَيدَكَ وأمَّه إلى عبادك المؤمنين وحببهم إليهما»(1) فما خُلِقَ مؤمن يسمع بي ولا يراني إلَّا أحبني.

ذلكم الرجل الذي منّ عليه الله بموهبتي قوة الذاكرة ورحابتها، فكان يجيد الإصغاء، ويعي بقلبه ما يسمعه، ويختزن في ذاكرته ما وعاه، حتى حفظ كثيرًا وكثيرًا جدًا مما حدَّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ساعده صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولئن تركنا لأبي هريرة المقال، لقال: إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء  بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، ولقد قال صلى الله عليه وسلم يومًا «أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا ثم يجمعه إلى صدره فإنه لم ينس شيئًا سمعه»(2)، فبَسطْتُ بردة عليَّ حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدثني به.

عهود اليهود |  Mugtama
عهود اليهود | Mugtama
ليس أدلّ على يقين يهود من أن محمدا، صلى الله عليه...
mugtama.com
×

لم يفارق أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قط عدا ساعات النوم قانعًا بقوته فحسب، لا يأبه بجمع المال، وقد حمل نفسه على هذه الحال سنوات أربع هي العمر الذي عاشه معه صلى الله عليه وسلم وكوَّنَ منها حافظته العريضة في الرواية للحديث، حتى قال البخاري: روى عن أبي هريرة نحو ثمانمائة أو أكثر من الصحابة والتابعين وأهل العلم(3).

وهكذا مرت به حياته: بين العبادة، فكان يُقَسم الليل بالثلث، يقوم ثلثه، وزوجته ثلثه، وابنته ثلثه.

وبين الحديث: فجعل يحدِّث ويحدَِث من الكنوز التي أودعها صلى الله عليه وسلم في صدره.

وبين الجهاد في سبيل الله: فمنذ أسلم ما غاب عن حرب في الإسلام.

وهكذا ما قصَّر أبو هريرة في عبادة، وما تخلف عن غزوة، وكتب لاسمه الخلد في دنيا البشر، كان اسمه قبل أن يُسلم عبد شمس ولما أسلم دعاه صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن، وكان رحيمًا بالحيوانات، عطوفًا عليها، وكانت له هرة يطعمها ويسقيها، وينظفها ويؤويها، ويحملها كثيرًا لذا دُعِي: أبا هريرة.

وأحيانًا كان هذا الجليل ذو الفضل لا يجد قُوتَه ويفعل الجوع في أمعائه أفاعيله فيلصق بطنه بالأرض أو يشد عليها حجرًا! بل إنه في بعض الأحايين كان يسقط على الأرض ولا يقدر على المثول واقفًا من فعل الجوع(4).

ولنتأمله، وقد جلس ذات يوم على طريق يمر منه الصحابة، وجعل يلتفت يمنة ويسرة علَّه يرى أحدهم قادمًا، فثمة أمر ما يشغله، يشتد عليه ويحرك داخله شعورًا خفيًا يؤلمه، تُرى ما السبب؟!

كان رضي الله عنهم يودُّ شيئًا يسيرًا من طعام لتكفَّ عنه أمعائه التي ما فتئت تتقلص وتمور وتسأل عن شيء يملأها، وتمر به الدقائق بطيئة يُبَطِئُها ويُثقِلُها لسع الجوع وحرارته، ومن حين لحين يضغط على بطنه علَّ الألم يسكُن عنها قليلًا، وفجأة يَلْمَحُ قادمًا فيمدُّ عنقه ويستقبل الطريق ينظر، فيبدو له صاحب الإحساس المرهف والكرم الفياض قادمًا، إنه أبو بكر رضي الله عنهم، فتسكن نفسه، فأبو بكر لا يزال يبحث عن مسكين يُطْعمه، أو أي سبيل أُخرى تُسرِع به صوب الجنة، ولو سألنا عنه ذلك الجائع لقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا؟ قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلَّا دخل الجنة»(5). ولئن كان حب المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم يأتي أولًا، فحبهم لأبي بكر رضي الله عنه يأتي تاليًا، ولئن كان دأب أبي بكر الذي ندَّعي حبه هو البحث عن جائع، فما بالنا نحن وصفعات صراخ من يموتون جوعًا في غزة تتوالى في صفع وجوهنا وركل قلوبنا، ومشاهدهم التي تشطر أرواحنا تتوالى على صفحات أبصارنا؟!

ويدنو الجواد من الجائع الجليل القدر، ويتبادلان السلام، ولمَّا كان السؤال يستدعي نوعًا من عدم العفة حجب أبو هريرة مطلبه، وأوقف أبا بكر وسأله عن آية في كتاب الله علَّه يفطن للأمر، ولا ريب أبدًا لو عَلِمَ أبو بكر أمنيته ما كان ليأباها عليه، بل لسارع إليها، بيد أن أبا هريرة رغم قرصات الجوع كان أهدأ ما يكون، ولو كان لإحساسه بالجوع أدنى صدى على وجهه لقرأه أبوبكر، وما مر به تاركه وشأنه.

مازال أبو هريرة على حاله وبصره على الطريق يروح ويجيء، وما لبث أن أنبأه بقدوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر هو المنافس الكبير لأبي بكر في المسارعة إلى الخيرات، ولئن سألنا صاحبنا الجائع عن شيء من فضله، لقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم إذ رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرة عمر فوليت مدبرًا». قال أبو هريرة: فبكى عمر ونحن جميعًا في ذلك المجلس معه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بأي أنت يا رسول الله أعليك أغار؟(6).

وفعل معه أبو هريرة ما فعله مع أبي بكر، ولمَّا لم يلحظ عمر عليه شيئًا، مرَّ به دونما يُقدِم له شيئًا.

وفجأة.. يبدو النبي صلى الله عليه وسلم قادمًا يسبقه عطره ويُعلن عنه شذاه، ولأنه يرى بنور الله، فطِنَ لأبي هريرة وما لاقاه، فافترَّ ثغره الشريف عن بسمة نورانية، أشرقت في نفس أبي هريرة وهو يسمعه يناديه ملاطفًا «أبا هر»، فأجاب: لبيك يا رسول الله، فقال: «الْحَقْ»(7)، ودخل صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه واستأذن لأبي هريرة فدخل، فوجدا لبنًا في قدح، فسأل النبي أهله: «من أين هذا اللبن»؟ فأبلغوه عمن أهداه له، فالتفت لأبي هريرة: «أبا هر» فأجاب: لبيك يا رسول الله، فقال: «الْحَقْ إلى أهل الصفة فادعهم لي». فتمتم أبو هريرة في نفسه: أهل الصُفَّة! وماذا يصنع قدح من لبن في أهل الصُفّة؟!

الدين والتديّن لدى اليهود بين الحقيقة والتصنّع البراغماتي.. الجذور التاريخية والواقع الراهن (1) |  Mugtama
الدين والتديّن لدى اليهود بين الحقيقة والتصنّع البراغماتي.. الجذور التاريخية والواقع الراهن (1) | Mugtama
من الأكاذيب الكبرى التي تعيشها البشرية منذ قرون ط...
mugtama.com
×

وكانوا قرابة أربعمئة من فقراء المهاجرين، ولم يكن حالهم ليختلف عن حال أبي هريرة، فكلهم فقراء إلَّا من الإيمان، لا يأوون على أهل ولا مال، ولا يأوون إلا عليه صلى الله عليه وسلم، لذا كان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يُصِب منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها شيئًا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يأكل من الهدية ولا يأكل من الصدقة.

تمنى أبو هريرة لو استطاع أن ينال من اللبن شربة يتقوى بها جسده بقية يومه وليلته، ورغم خوفه من ألَّا يتبقى من اللبن شيءٌ له كظم رغبته القوية فما كان ليأبه بأي اعتبار عدا طاعته صلى الله عليه وسلم وهو الذي نذر نفسه لها منذ أسلم، فأسرع إلى أهل الصفة وآب بهم جميعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

سبحان الله! أوجعل النبي من مجرد قدح لبن وليمة يدعو إليها أهل الصفة؟! نعم جعله ليقينه الوافر بأنه عز وجل يؤيده بمعجزاته، وأن هذا القدح سيروي الجميع، وناول صلى الله عليه وسلم قدح اللبن لأبي هريرة، قائلًا: «خذ فأعطهم»، فجعل أبو هريرة يطوف عليهم، يعطي أحدهم القدح فيشرب حتى يرتوى ثم يردَّه، فيعطيه لآخر، وهكذا حتى أتى على آخرهم، فدفع رضي الله عنه القدح للنبي فوضعه صلى الله عليه وسلم على يده، ثم نظر لأبي هريرة باسمًا وكأنه يعلم ما يجول بخلده، وقال: «أبا هر»، قال: لبيك يا رسول الله، فقال: «بقيت أنا وأنت»، قال: صدقت يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «اقعد فاشرب»، فقعد أبو هريرة وجعل يشرب، والنبي صلى الله عليه وسلم يحثه على الاستزادة: «اشرب، اشرب»، وما كفَّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بعدما ارتوى أبو هريرة وشعر بالامتلاء وأقسم: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا(8).

 ليزايل أبا هريرة ألم نوبة من نوبات الجوع، ثم أخذ صلى الله عليه وسلم القدح وشرب السؤر(9).

ويبقى السؤال القديم: كيف يروي قدح من اللبن نحو أربعمائة رجل كلهم جياع؟!

وتبقى الإجابة: إنها إحدى آيات النبوة التي طار شذاها عَطِرًا بالمدينة.. ولكن اليهود كذبوك يا محمد.

ويبقى السؤال الجديد: كيف يدع أكثر من مليار مسلم من أتباعه صلى الله عليه وسلم أهل غزة يموتون جوعًا؟!

وتبقى الإجابة على اللسان الشريف تتردد فوق بر العالم الإسلامي وبحره وجوه: «أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثاءٌ كَغُثاء السَّيل»(10).

ويعود السؤال: ماذا كان ليفعل صلى الله عليه وسلم لأهل غزة لو كان بيننا اليوم؟

وتبقى الإجابة على لسان الشيخ محمد الغزالي تضرب في أرجاء كل فلسطين: «ما قلَّمَ أظافر اليهود إلا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم».




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (7154).

(2) حديث صحيح: اخرجه البخاري (3/68)، ومسلم (2492).

(3) سير أعلام النبلاء (2/578).

(4) خبر صحيح: أخرجه البخاري (8/119)، والترمذي (2477).

(5) حديث صحيح: أخرجه مسلم (7/117)، والبيهقي (4/189) في سننه الكبرى.

(6) حديث صحيح: أخرجه البخاري (7/46)، ومسلم (2394)، والترمذي (3772).  

(7) أسرع.

(8) حديث صحيح: أخرجه البخاري (8/120)، والترمذي (2477)، واحمد (2/515).

(9) البقية التي تفضل بعد شُرْبِ أي سائل.

(10) حديث صحيح: صححه الألباني في صحيح الجامع (8183)، وفي صحيح أبي داود (4297).

 


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة