مبادرة التكنوقراط في غزة.. هل تنجح الفصائل بتوحيد جبهتها لإدارة القطاع؟

إياد القطراوي

09 نوفمبر 2025

44

منذ الأشهر الأولى للحرب الأخيرة على غزة، تبلورت معضلة أساسية أمام الفاعلين الفلسطينيين والإقليميين والدوليين حول اليوم التالي للحرب، والسؤال الأهم: من سيحكم غزة بعد الحرب؟

وسط الدمار الواسع والانهيار الشامل لمظاهر الحياة، طُرحت دعوات متعددة لإقامة «إدارة مدنية مؤقتة» أو «سلطة انتقالية بإشراف دولي»، في مقابل تمسّك الفصائل الفلسطينية بحقها في إدارة شؤون القطاع ضمن إطار وطني خالص.

ومن هنا برزت مبادرة التكنوقراط كمحاولة لتجاوز الانقسام الحزبي، وتشكيل إدارة مهنية تتولى المهام اليومية وتعيد الثقة بالقرار الفلسطيني المستقل.

فشل توحيد الجبهة الداخلية لإدارة غزة تعني فتح الباب أمام مشاريع الوصاية الأمريكية والدولية

لكن السؤال الجوهري اليوم: إلى أي مدى ستنجح الفصائل في توحيد الجبهة الإدارية داخل غزة؟ وهل تستطيع فعلاً إغلاق الباب أمام مشاريع الوصاية التي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الاحتلال والدول الغربية إلى تمريرها تحت عناوين إنسانية أو إعمارية؟

مبادرة التكنوقراط بغزة.. السياق السياسي وولادة الفكرة

تقوم مبادرة التكنوقراط على تشكيل إدارة مهنية غير فصائلية تتولى شؤون غزة اليومية من الخدمات إلى الإعمار بعيداً عن الحسابات السياسية المباشرة.

وقد جاءت الفكرة نتيجة إدراك الفصائل، أن الانقسام بات يشكّل تهديداً وجودياً للمشروع الوطني، وأن استمرار غياب السلطة الإدارية الموحدة يفتح الباب أمام الوصاية الدولية أو الإقليمية، خصوصاً بعد تكرار الدعوات لإقامة «سلطة محلية بإشراف دولي».

ويعود طرح الفكرة إلى إدراك متزايد داخل الفصائل بأن الصراع على الشرعية بين السلطة الفلسطينية و«حماس» أضعف الموقف الوطني، وأتاح للاحتلال الصهيوني هامشاً واسعاً لإعادة هندسة المشهد الإداري في غزة.

ومع استمرار تداعيات الحرب وتعطل مؤسسات الحكم المحلي، بدأت الأطراف الفلسطينية تبحث عن صيغة داخلية مستقلة قادرة على إدارة القطاع دون أن تُستخدم كأداة لإقصاء أي طرف.

مواقف الفصائل الفلسطينية.. من مبادرة التكنوقراط بين القبول والتحفظ

حركة «حماس» تتعامل مع المبادرة بقدر من البراغماتية الحذرة؛ فهي ترى أن تسليم الإدارة لحكومة تكنوقراط من الداخل يمكن أن يخفف عنها عبء المواجهة الإنسانية والسياسية، شرط أن تكون ضمن رؤية وطنية لا تنتقص من مكانتها أو من شرعية المقاومة، وترفض أي صيغة يمكن أن تمهد الطريق لسلطة خارجية أو لإعادة هندسة الأمن في القطاع تحت إشراف أطراف غير فلسطينية.

الانقسام وغياب المرجعية والتمويل والواقع الأمني المعقد.. أبرز التحديات أمام قيام إدارة تكنوقراط

أما حركة «فتح»، فترى في المبادرة فرصة لاستعادة دور السلطة الوطنية في غزة بطريقة تدريجية، شريطة أن تكون حكومة التكنوقراط تابعة سياسياً للرئاسة الفلسطينية وتعمل تحت سقف البرنامج السياسي المعترف به دولياً، وهنا تكمن الإشكالية، فـالتكنوقراط وفق مفهوم «فتح» لا ينفصل عن الشرعية الرسمية، بينما تراه «حماس» كياناً ميدانياً مستقلاً يجب أن ينبع من الداخل.

في المقابل، أبدت الفصائل الأخرى، مثل الجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية، ومعها قوى المجتمع المدني، دعماً مشروطاً للمبادرة بوصفها أداة لإعادة بناء الثقة الشعبية وإدارة الحياة اليومية.

وقد منح هذا الموقف الوسطي المبادرة زخماً داخلياً ساعد على ترويجها كـحل فلسطيني خالص لا يخضع للوصاية.

تحدي توحيد الجبهة الإدارية لغزة

رغم الخطاب الإيجابي العام، لا تزال العقبات الجوهرية قائمة أمام قيام إدارة تكنوقراطية فاعلة في غزة، أبرزها:

1- غياب المرجعية السياسية الموحدة، فما زال الجدل قائماً حول الجهة التي تمنح الشرعية لهذه الإدارة؛ هل هي منظمة التحرير، أم توافق الفصائل، أم مجلس وطني موسّع؟

2- الواقع الأمني المعقد حيث لا يمكن لأي إدارة مدنية أن تعمل بفاعلية دون سيطرة أمنية واضحة ومستقرة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.

3- انقسام الموارد والتمويل، فالمساعدات الدولية تمر غالباً عبر قنوات تابعة للأمم المتحدة أو السلطة الفلسطينية، بينما الميدان الإداري في غزة تديره هياكل قائمة منذ ما قبل الحرب، ما يعطل أي مسار موحّد.

4- الخشية من الشرعنة الدولية المشروطة؛ لأن أي اعتراف خارجي بهذه الإدارة قد يأتي بشروط سياسية مثل نزع سلاح المقاومة أو الالتزام باتفاقات أوسلو؛ ما يجعل الفصائل تتردد في إعطاء الضوء الأخضر الكامل.

مبادرة التكنوقراط بغزة في مواجهة مشاريع الوصاية

منذ الأسابيع الأولى للحرب، رُصدت عدة مشاريع غربية وصهيونية تهدف إلى فرض إدارة بديلة لغزة:

  • مشروع أمريكي– أوروبي يقترح إدارة مدنية بإشراف الأمم المتحدة ومشاركة عربية.
  • طروحات صهيونية تتحدث عن «سلطات محلية غير مسيّسة» تتعامل مباشرة مع الاحتلال تحت غطاء إنساني.
  • مبادرات عربية تدعو إلى «قوة مراقبة عربية– دولية» لتأمين المعابر والإعمار.

مبادرة التكنوقراط أداة لقطع الطريق على مشاريع إعادة إنتاج السيطرة الأجنبية عبر واجهات مدنية

والرد الفلسطيني على هذه الطروحات كان واضحاً؛ لا وصاية على غزة، فمبادرة التكنوقراط ليست مجرد آلية لإدارة الشأن الداخلي، بل أداة لقطع الطريق على مشاريع إعادة إنتاج السيطرة الأجنبية عبر واجهات مدنية.

ويعتمد نجاح المبادرة في هذا المجال على 3 عوامل أساسية:

1- قدرتها على فرض حضور ميداني فعلي في الإغاثة والإعمار.

2- تبنّيها خطاباً وطنياً جامعاً لا يخضع للابتزاز السياسي الدولي.

3- إشراك الكفاءات المحلية التي تحظى بثقة الجمهور، ما يمنحها شرعية شعبية حقيقية.

القدرة على إفشال مخططات الاحتلال

تدرك دولة الاحتلال أن أي إدارة فلسطينية موحدة تشكل عقبة أمام إستراتيجيتها في تفكيك غزة سياسيًا واجتماعيًا، لذلك تعمل على:

1- تغذية الانقسام الداخلي عبر اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مع شخصيات محلية.

2- الترويج لفكرة «الإدارة المحلية المستقلة» لإبعاد غزة عن السلطة الفلسطينية.

3- استغلال الوضع الإنساني لتبرير رقابة صهيونية أمنية واقتصادية على المعابر والإعمار.

إن نجاح مبادرة التكنوقراط في إفشال هذه المخططات مرهون بقدرتها على إنتاج شرعية داخلية مقبولة وفرض حضور إداري فعّال على الأرض يقطع الطريق أمام أي بدائل مفروضة من الخارج.

لذلك، تسعى دولة الاحتلال إلى تحويل مرحلة ما بعد الحرب إلى مرحلة تفكيك إداري من الداخل، من خلال:

  • دعم شخصيات محلية أو عائلية لإدارة مناطق محددة.
  • فرض نظام تصاريح مشدد على حركة البضائع والكوادر الإدارية.
  • ربط عملية الإعمار بإشراف أمني وعسكري مباشر.

نجاح مبادرة التكنوقراط مرهون بقدرتها على إنتاج شرعية مقبولة وحضور إداري فعَّال على الأرض

غير أن وجود مبادرة تكنوقراطية فلسطينية ذات طابع وطني يُعقّد هذه الإستراتيجية، لأنها تنزع من الاحتلال ذريعة «غياب الشريك المحلي»، وتمنح الفلسطينيين موقع المبادِر لا المتلقّي، أما فشلها فسيُستخدم لتبرير إقامة وصاية أممية أو عربية بإشراف إسرائيلي فعلي.

مستقبل مبادرة التكنوقراط بغزة.. بين الواقعية والطموح

تمثل المبادرة في شكلها الحالي خياراً اضطرارياً لا مثالياً؛ فهي تواجه تحديات كبيرة، أبرزها ضعف البنية التحتية، وأزمة الثقة بين الفصائل، وشروط التمويل الدولي.

ومع ذلك، فإنها تفتح نافذة سياسية جديدة لإعادة صياغة العلاقة بين غزة والضفة على أساس إدارة مهنية وطنية مشتركة؛ فإن نجحت المبادرة، فستشكل سابقة تاريخية تعيد الاعتبار لفكرة «الوحدة الإدارية» كبداية نحو وحدة سياسية لاحقة، أما فشلها فسيعيد فتح أبواب الوصاية على مصراعيها، ويُعيد إنتاج غزة كمجال سياسي معزول تتحكم فيه الأطراف الإقليمية والدولية وفق مصالحها.

مبادرة التكنوقراط ليست مجرد خطوة تنظيمية لإدارة مرحلة ما بعد الحرب؛ إنها معركة على معنى السيادة الفلسطينية نفسها.

فما بين رغبة الفصائل في الحفاظ على القرار الوطني، ومساعي الاحتلال لتفكيك أي إطار جامع، يقف الفلسطينيون أمام اختبار تاريخي؛ إما توحيد الجبهة الإدارية لحماية استقلال القرار، أو ترك الساحة مفتوحة أمام مشاريع الوصاية والتدويل.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة