إعمار غزة.. تحديات وعقبات ميدانية وجدول زمني متوقع

تُخيم على غزة
اليوم صورة نهاية العالم؛ فمشهد الدمار الهائل الذي يمتد من بيت حانون إلى رفح
يحكي قصة كارثة إنسانية ومادية غير مسبوقة، مع تدمير أكثر من 70% من الوحدات
السكنية، ونزوح شبه كامل للسكان، ومع تجاوز فاتورة الأضرار المباشرة 18.5 مليار
دولار بحسب تقديرات البنك الدولي، يبدو الحديث عن إعادة الإعمار وكأنه محاولة لرسم
مستقبل فوق أنقاض المستحيل.
الضرورة
الإنسانية لإعادة بناء القطاع تصطدم بواقع مرير من العقبات الميدانية، والقيود
الصارمة، والفراغ السياسي، ومعضلة التمويل مقابل التدمير المتكرر، هذا المقال لا
يستعرض حجم الخسائر فحسب، بل يغوص في تحليل التحديات العملية والسياسية العميقة
التي تجعل توقعات إعمار غزة رهينة لحسابات معقدة، ويطرح جدولاً زمنياً واقعياً لما
قد تكون أطول وأعقد عملية إعادة بناء في القرن الحادي والعشرين.
أولاً: حجم الدمار والحاجة الـمُلِحّة لإعادة الإعمار:
يُخيم على غزة
جوٌّ خانق، ليس فقط برائحة المتفجرات اللاذعة والخرسانة المسحوقة، بل بثقل
المستحيل الخانق، فحيث كانت المنازل والمدارس والمستشفيات والأسواق الصاخبة، تمتد
الآن آفاقٌ غير متناهية من الأنقاض الرمادية؛ مشهد هيكلي يمتد من بيت حانون شمالاً
إلى رفح جنوباً، وإن تحديد حجم دمار غزة أمر بالغ الصعوبة.
يُقدر البنك
الدولي الأضرار المادية المباشرة والخسائر الاقتصادية بما يتجاوز 18.5 مليار دولار؛
أي ما يعادل تقريباً ضعف الناتج المحلي الإجمالي للقطاع قبل الحرب.
وأفاد مكتب
الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن أكثر من 70% من الوحدات السكنية
قد تضررت أو دمرت؛ ما أدى إلى نزوح 1.9 مليون شخص؛ أي ما يُعادل تقريباً إجمالي
عدد السكان، نزحوا مرات عديدة، وصاروا يعيشون في خيام أو ملاجئ مؤقتة أو في هياكل
مبانٍ مُجوَّفة.
ودُمرت البنية
التحتية الحيوية بنسبة 85%؛ فأنظمة المياه والصرف الصحي معطلة؛ مما يترك 96% من
السكان دون مياه شرب آمنة ويخلق أزمة صحية عامة كارثية، وشبكة الكهرباء بأكملها
معطلة، مع انخفاض قدرة التوليد إلى ما يقرب من الصفر، وتوجد أكثر من 200 مدرسة و20
مستشفى في حالة خراب، إلى جانب الجامعات والمراكز الثقافية والأراضي الزراعية
الحيوية التي أصبحت غير صالحة للاستخدام بسبب الذخائر غير المنفجرة والتلوث.
وتقدر الأمم
المتحدة أن إزالة ما يقدر بنحو 37 مليون طن من الأنقاض، قد يستغرق أكثر من عقد من
الزمان ويكلف مليارات الدولارات وحدها.
ولا تزال غزة
تعيش الدمار ولها حاجة إنسانية مُلحّة؛ إذ استشهد بها أكثر من 67 ألف فلسطيني،
وانكمش اقتصادها بنسبة تقارب 83% في عام 2024م وحده، وقد دفعت هذه الخسائر
الكارثية إلى سلسلة من المقترحات الدولية التي تهدف إلى إعادة تشكيل مستقبل غزة سياسياً
واقتصادياً واجتماعياً.
إعمارٌ على أنقاض الكرامة.. حين يساوم الاحتلال على البناء بثمن الخضوع. pic.twitter.com/BVXCmZYsY3
— مجلة المجتمع (@mugtama) October 22, 2025
ثانياً: عقبات ميدانية في طريق إعمار غزة:
1- كابوس إيصال المساعدات:
ليس المال العائق
الرئيس، بل القدرة على الوصول، حيث يحافظ الكيان المارق على سيطرة صارمة على جميع
نقاط الدخول إلى غزة في معبري كرم أبو سالم وإيريز، والممر البحري الناشئ، وإن
عمليات التفتيش الأمني، والتأخيرات البيروقراطية، والقيود المفروضة على المواد ذات
الاستخدام المزدوج؛ وهي المواد التي قد تُستخدم نظرياً لأغراض عسكرية، مثل الإسمنت
والفولاذ، وحتى أنواع معينة من الأنابيب أو المولدات، كل هذه العمليات تُعيق بشدة
تدفق المواد الأساس لإعادة الإعمار.
وتُفيد الأمم
المتحدة والوكالات الإنسانية بأن جزءاً ضئيلاً فقط من الشاحنات المطلوبة يدخل يومياً،
وأن المواد المسموح بها غالباً لا تكفي لأي شيء يتجاوز المأوى الضروري، وقد واجه
الرصيف المؤقت المقترح بناؤه في غزة، الذي بنته الولايات المتحدة، تحديات لوجستية
وأمنية كبيرة؛ ما يُبرز هشاشة الطرق البديلة.
2- عجز الثقة وفوضى التنسيق:
تُعاني جهود
إعادة الإعمار السابقة، وخاصة بعد حروب 2008-2009 و2012 و2014م، من انعدام الكفاية،
وتمكن الفساد في السلطة الفلسطينية، وغياب التنسيق؛ حيث إن آلية إعادة إعمار غزة
التي أُنشئت بعد عام 2014م تحت إشراف الكيان الاحتلالي لإدارة استيراد مواد
البناء، قد تعرضت لانتقادات واسعة النطاق بسبب بطء عملها وتعقيدها وعرضتها للتحويل،
ويخشى المانحون من ضخ المليارات في نظام يُنظر إليه على أنه غامض أو عُرضة لسوء
الاستخدام.
وغياب سلطة
فلسطينية واحدة ذات مصداقية وصلاحيات واسعة لتنسيق إعادة الإعمار والإشراف عليها
يخلق فراغاً تملؤه أجندات متنافسة وجهود مجزأة، وهذا ما يطرح أسئلة عملية: من
يتحقق من الاحتياجات؟ من يُدير العقود؟ من يضمن الجودة ويمنع الفساد؟ ولا تزال هذه
الأسئلة عالقة إلى حد كبير.
3- سراب «إعادة البناء بشكل أفضل»:
في حين أن
الشعار هو «إعادة البناء بشكل أفضل»، فإن الواقع على الأرض غالباً ما يفرض تقديم
تنازلات، مع تشريد الملايين واقتراب فصل الشتاء أو اشتداد حرارة الصيف، فإن الضغط
المباشر يتمثل في منح مأوى ضروري وسريع من الخيام، والأغطية الشتوية، والوحدات
الجاهزة، وليس مساكن متينة ومستدامة.
إن التركيز على
البقاء الفوري يُؤخر أو يُقوّض حتماً إعادة الإعمار طويلة الأمد وذات الجودة
العالية، علاوة على ذلك، فإن التهديد المستمر بتجدد الاحتراب يجعل الاستثمار
الدائم واسع النطاق يبدو وكأنه مغامرة، وذلك مبنيّ على سؤال عملي: لماذا نبني
مستشفى متطوراً إذا كان من المحتمل تدميره مرة أخرى خلال 5 سنوات؟
4- معضلة نزع سلاح «حماس» والمقاومة:
هناك مطلب أمني للكيان الاحتلالي غير القابل للتفاوض هو نزع سلاح غزة بشكل كامل ويراه قابلاً
للتحقق، ولن يسمح بإعادة إعمار منطقة يمكن استخدامها كنقطة انطلاق لهجمات مستقبلية،
ومع ذلك، فإن تحقيق ذلك مهمة شاقة، سيتطلب إما تعاون حكومة محلية معادية، وهو أمر
مستحيل مع «حماس»، أو قوة أمنية دولية.
ثالثاً: جدول زمني متوقع لإعمار غزة:
توجد تصريحات
متفائلة بشأن «إعادة بناء غزة في أشهر»، ومع افتراض افتراضات ضخمة بتحقق بيئة
سياسية مستقرة ووصول غير مقيد للمواد، فإن جل الخبراء يتفقون على أن إعادة الإعمار
الكاملة، ستستغرق عقوداً، لا سنوات، وهذا جدول توقعات الإنجاز، إن شاء الله:
المرحلة الأولى: الاستقرار الإنساني (من سنة إلى سنتين):
إن الاستقرار
الإنساني يتطلب إزالة الأنقاض الحرجة من الطرق والمواقع الأساس، وإيجاد المأوى في
حالات الطوارئ، وإعادة الحد الأدنى من المياه والصرف الصحي والكهرباء، ومنع تفشي
الأمراض، وتقديم المساعدات الغذائية والطبية الأساس، هذه المرحلة لا تزال محفوفة بالأخطار
المرحلة الثانية: إعادة الإعمار الأساس واستعادة الخدمات (3 - 7 سنوات):
تقوم هذه
المرحلة على إعادة بناء البنية التحتية الضرورية (المستشفيات، المدارس، الطرق
الرئيسة، محطات معالجة المياه)، وبناء مساكن دائمة لازمة للنازحين، واستعادة شبكات
الكهرباء والاتصالات الأكثر متانة، وإحياء الخدمات العامة الأهم، وهذا ما يتطلب
تدفقات مادية هائلة وهيكل حَوكمة فعّال.
المرحلة الثالثة: الإنعاش الاقتصادي والتنمية المستدامة (7 - 20 سنة فأكثر):
يقوم هذا
الإنعاش على إعادة بناء القطاع الخاص، وتطوير الصناعات الموجهة للتصدير،
والاستثمار في التعليم العالي والابتكار، وإنشاء بنية تحتية قادرة على التكيف مع
تغير المناخ، وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، وتعتمد هذه المرحلة كلياً
على الحل السياسي للتدافع ورفع الحصار.
وتعتمد كل مرحلة
من هذه المراحل على نجاح سابقتها، وتعتمد قبل ذلك على الإرادة السياسية المستدامة
والأمن، وقد يؤدي اندلاع اقتتال كبير واحد إلى تأخير العملية سنوات، حيث إن العبء
النفسي الذي يتحمله السكان كالصدمة، والخسارة، والشعور بالمستقبل المحطم يشكل
عاملاً آخر لا يمكن قياسه، وسوف يؤثر على وتيرة وطبيعة التعافي لأجيال قادمة.
رابعاً: شروط وتحفظات إجرائية:
إن جدول
التوقعات هذا تتحكم فيه، بعد إرادة الله، كثير من المواقف النفعية المتنافسة
متدافعة عند مفترق طرق على مستقبل غزة، وهذه الرؤى والمواقف هي التي تحكُم خطط
الإعمار، ومن ذلك؛ موقف الكيان الاحتلالي، وموقف «حماس»، وموقف السلطة الفلسطينية
(PA)، وموقف الولايات المتحدة الأمريكية، وموقف
المجتمع الدولي، وموقف اللاعبين الإقليميين العرب، وموقف الأمم المتحدة.
هذه المواقف
طرحت جملة من الإشكالات العملية مثل تمويل الإعمار وإعادة التخريب، ومعضلة وعود
وتعهدات التمويل في ظل الإخفاقات الماضية، وسراب «خطة مارشال»، ومعضلة تمويل
الولايات المتحدة للإعمار، والعمل الخيري الإستراتيجي التي تقوم به ودول الخليج.
كل هذه المواقف
والإشكالات أثرت في خطط إعمار غزة التي منها؛ خطة الثقة الكبرى التي تميزت من
غيرها برؤى وانتقادات مثيرة للجدل، وخطة الولايات المتحدة الأمريكية ذات الـ21
نقطة، وخطة جامعة الدول العربية وجهود الإنعاش الدولية.