مثقفو غزة.. رحلة صمود تتحدى الاحتلال

عشق القراءة وأدمن المطالعة، يعيش أهوالاً
وأياماً كيوم الحشر، لكنه لم ينسَ يوماً تلاوة القرآن ومطالعة القراءات العشر.
وصل حبه لمكتبته حد الجنون يحتضنها
ويحملها مع كل نزوح متحدياً ريب المنون، ليس متأففاً لكنه صنع لنفسه سعادة لمطالعة
جميع الفنون.
تخاطبه نفسه بترك الكتب وأصحابها، لم يعد
فيها مثقف أو عالم يرانا أو يئن لنا، يزجرها تارة ويروضها تارة حتى أثبت في مستنقع
القصف عقله وقال لها بعزم وحزم: «دونك الموت أو تستريحي».
يتنقل مع خيمة بالية ومعدة خاوية بجسد
يتضور جوعاً ولكن بعقل يشع ضوءاً، بنفس لا تشبع ولا تملّ القراءة، بل ترى فيها
النجاة والسعادة والبراءة، لم تخنه يوماً أو تدير ظهرها، بل تفتح بطنها وكنوزها،
لينهل منها دون خذلان، ليست كالبشر لكنها كالثمر، يأخذ منها أطيبه ولا يصحب إلا
أجوده.
في الحصار والقصف كانت القراءة كعبته
ومعايشة العلماء قبلته، أحبهم وخاطبهم كأنه في عصرهم وواحد منهم، رزق بولد فسماه علياً
تيمنّاً أن يكون اسمه كاسم علي بن حمزة الكسائي.
رغم أن قدمه متعثرة في الثرى لا يتحمّلها
من شدة الجوع، لكنّ همّته في الثريا، العوز يحاصره والحاجة تخنقه، لكنه يعيش بنفس
ترى إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيّا، إنه المثقف والباحث الغزاوي حمزة
مصطفى أبو توهة الذي ضرب مثالاً قل واجده وندر واحده.
أبو توهة يعرف نفسه ويكشف
مأساته
«ربما نزحتُ بعدد أصحاب المعلقات العشر،
أو ربما بعدد علوم اللغة الاثني عشر، وربما أيضًا بعدد بحور الشعر العربي الستة
عشر، جلبتُ معي في هذه الخيمة ما شاء الله لي من علماء اللغة والأدب والقراءات،
أسامرهم وأذاكرهم، لا أنسى سؤالاتي لسيبويه ولا لأبي عمرو ولا لابن مالك، كان أبو
حيان دائمًا معي حادَّ المزاج متقلِّبَه، كنتُ أطربُ جدًّا لسعة علم السيوطي، جمع
من مسائل العلم أدناها وأقصاها، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة فيه إلا أحصاها».
بهذه العبارة الرشيقة المفعمة بالأمل،
يكشف المثقف والباحث الغزاوي حمزة مصطفى أبو توهة حياته المضنية ورغم قسوتها، لكنه
يكتب ويتابع وينقل أحداث غزة بكل صمود وثبات، عتاده كتبه المبعثرة يلملمها ويحملها
لكنه لم يكن يوماً يحمل أسفاراً، بل يحمل مشروعاً وهموماً وأفكاراً، لم يكن يوماً
يقتات بثقافته درهماً وديناراً، كغيره الذين يكتبون لذبح غزة لأجل أن يكسب أحدهم
يورو أو دولاراً، يكتب بعقل وضمير المثقف وليس بقلب المخذّل المُرجف.
مكتبات أبو توهة وعدد
النزوح
أول مكتبة امتلكها كانت في بيت لاهيا في
شمال القطاع بعدد 20 ألف كتاب، من شدة عشقه وحبه لها كان قبل أن يدخلها، يغتسل
ويتطيب ويصفّف شعره بعد أن يتوضّأ، ثم يدخل إليها بقدمه اليمنى، لكنه فقدها بعد
تدمير منزله أول أيام الحرب.
أما مكتبته الثانية بعد رحلة النزوح،
كانت في مخيم جباليا، لكنه فقدها أيضاً بعد تدمير المخيم والبيت الذي نزح فيه.
فيما كانت مكتبته الثالثة في نزوحه إلى
شارع النصر، فقدها أيضاً بنفس صابرة راضية كأخواتها السابقات.
بينما ابتدأ رابعتها في رحلة النزوح التي
لا تنتهي بمخيم الشاطئ، وهو المخيم الذي وُلد ونشأ فيه طفلًا.
ورغم أن الخيمة من شدة الحر تكون فرنًا
ملتهبًا، لكنه يحاول جاهدًا أن يتنفس أو يتحرك بشكل صحيح، لا يكاد بحر العرق
يفارقه، ولا يجد ما يخفف عنه في هذه الخيمة المشتعلة بحر الشمس ودوي القصف، إلا
ذلك الطالب النشيط الذي يعلّمه القراءات العشر.
كما يحكي عن نفسه أنه لا يخفف عن نفسه
ضنك العيش إلا تلك التوجيهات النحوية والصرفية والبلاغية واللغوية لكل وجه من وجوه
القرّاء.
يقول أبو توهة واصفاً سعادته الممزوجة بالآهات والتعب: ساعة كأنني معهم في جنة أو كأنني في عالم غير هذا العالم، أشتاق إلى الحياة وأشتاق إلى ما يليق بكل إنسان.
الجوع بديلاً عن هولاكو في
غزة
دخل هولاكو بغداد فأفسدها وأذهب رونقها
وبهجتها، أحرق كتبها أو أغرقها، واجتمع على أهل بغداد حينها الغلاء والوباء والطعن
والطاعون، فهاموا على وجوههم فوجدوا شامهم أمامهم فاحتضنهم، ولم تخذلهم مِصْرُهم
بل أفنت عدوهم في عين جالوتهم، لكن أهل غزة هاموا في كل طريق وخاطبوا كل صديق، كان
أبو توهة واحداً منهم، فهم الدرس مبكراً فلم يجد صديقاً ولا رفيقاً إلا كتبه، لم
ترعبه مخاطبة العدو له ولأهل الغزة «أين المفر، فالقصف خلفكم والبحر أمامكم».
وعندما وصل أبو توهة إلى البحر ومخيم الشاطئ،
حطّ رحاله ووضع مكتبه الرابعة والأخيرة وجلس يسامر ويحادث السيوطي، وسيبويه، وأبا
العلاء، وعلى هزّات القصف جعل يراجع ويزن أبيات شعره على أوزان الخليل، والأخفش،
ولم يأبه بتهديدات نتنياهو أو مراوغات ويتكوف.
كلما ملّ من كتاب انتقل إلى آخر، لكن
الشيء الذي أحزنه ولم يملّ منه هو استنقاذ الكتب من إيقادها كنار للطعام أو الخبز
ليشتريها، أعذر أهل غزة الذين استبدّ بهم الجوع فأحرقوا كتبهم وبقايا ثيابهم وأثاث
منازلهم ليطهوا على رمادها قطعة خبر من حفنة طحين ثمنها حياة فرد من عائلاتهم.
كلما اقتربت عليه سكرات من الموت من
الجوع أيقظته الفكرة من السكرة يقول: كيف لهذا الجسم أن يتنفس، ولهذا القلب أن
ينبض، كيف أمشي كيف أرى كيف أنام كيف أتكلم؟! لا شيء يشبه حياة البشر هنا ولا حتى
حياة الحيوانات، كلمة أقولها بكامل وعيي وبكامل معرفتي، كيف وقد أكلنا من قبل
أعلاف البهائم وشربنا المياه العادمة، لا أحد يرى ولا أحد يسمع ولا أحد يهمّه
أمرنا ولا أحد يفزع لهذه الدماء.
وجبة أديب غزة ومثقفها
يخاطب أبو توهة نفسه ويسألها: كيف أرفع
عيني عن الأرض حتى لا أرى الوجوه الشاحبة، ولا أسمع التمتمات الممزوجة بالألم؟! ما
يدريني أنني كنت سأرى تلك العجوز ذات السبعين على كرسيها المتحرك وهي تأكل قرنًا
من الفلفل الأخضر الحارّ بلا خبز أو طعام يكسر حرارة الفلفل؟! أعرف أن مجرد تخيل
هذا المنظر قد أوجعك، فما بالك بمن يعيشه؟! أحدِّث صديقي بحال تلك العجوز، فنظر
إليَّ وقال: أقسم لك بالله إني منذ ثلاثة أيام لم أدخل إلى الحمّام.
أراد ذات مرة أن يعيش يوماً خاصاً بوجبة
منفردة فأعدّ إفطاراً ملوكياً، فكيف تتوقع طبيعة الإفطار الملوكي لأحد طالبي العلم
أو أحد مثقفي غزة، أهو من سيد الطعام أم من أزواج البط والحمام.
يقول أبو توهة عن يومه الخاص ووجبته الممتعة: «إفطار ملوكي لم أبخل به على نفسي، رغيف فارغ بـ7 دولارات، وحبة بصل بـ15 دولاراً، وكأس شاي فيه ملعقتان من السكر بـ9 دولارات، وكيلو حطب بـ3 دولارات لإيقاد النار، لا بأس في التبذير لفطور فخم بـ34 دولاراً لفرد واحد، منذ شهور لم أذق طعم البصل، أصبح اليوم نعمة يُحسد الإنسان عليها»!
لو ذكرت هذه الأرقام لقلت: إنه لطالب
مبتعث في أرقى الجامعات أراد أن ينزّه نفسه بإفطار ملوكي لا ينازعه فيه أحد فدفع
هذه التكلفة، أو قلت: إنه أحد طلاب مصر الحديثة في بعثة محمد علي الذي بعث إليهم
متذمراً بأن ما يتكلفه أحدهم في الشهر من الفحم تصل تكلفته 300 قرش!
لكنك في غزة المذبوحة والمتروكة تموج
بأهلها، بين واقع مرّ ومجتمع دولي أشر، لا يرى حياء في نكث وعوده أو بث حرية
مكذوبة.
أبو توهة ابن الثلاثين كشف حالة ما يكابده أبناء وأهالي القطاع، فرغم أنه في الثلاثين من عمره كأنه عاش ألف سنة، يمشي أمتاراً ليرتاح قنطاراً من الوقت ظهره متمزق، وعظمه رمال ذائبة، أكتافه مثقلة، قدماه كأنه جرانيت متحجر، إنها غزة وحيدة وفريدة بأبنائها وجراحها وأتراحها، لكنها كاشفة وفاضحة لكل من خذلها.
اقرأ أيضاً: