مراعاة النفوس وحاجاتها في الشريعة الإسلامية

رقية محمد

28 يناير 2025

4782

جاءت الشريعة الإسلامية بمنظومة متكاملة من الأحكام والقيم التي تهدف إلى تحقيق التزكية العامة للمجتمع، وذلك من خلال الأمر برعاية الأخلاق؛ بما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع، وتتجلى عظمة هذه الشريعة في أنها تأخذ بعين الاعتبار طبيعة النفوس البشرية، وتراعي ظروفها وأحوالها، وفيما يلي توضيح لمظاهر هذه المراعاة وأهميتها في التزكية وضوابطها.

أولاً: مظاهر مراعاة النفوس في الشريعة:

الناظر في القرآن والسُّنة يجد حرص الشريعة على مناسبة الأحكام الشرعية لمختلف أحوال الناس بحسب بيئاتهم وأزمنتهم وأفهامهم، ومن أهم مظاهر هذه المراعاة ما يلي:

1- بيان المقاصد: فوضح الشارع أن الشريعة جاءت لجلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم، وبين مقاصد بعض الأحكام، مثل فرض الصيام الذي قُصد به التقوى، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).

2- التدرج: فالشريعة لا تبني الأفكار في النفوس في لحظة، ولكنها تراعي الحاجة للبناء التدريجي والتأكد من سلامة ما يُبنى عليه. 

ويبين ذلك ما رواه عبدالله بن عباس أن رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ: «إنَّكَ سَتَأْتي قَوْمًا أهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إلى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ علَى فُقَرَائِهِمْ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»(1). 

فجعل التطبيق العملي درجات مبنية على الأصل العقدي، وبين أهمية التأكد من قبول النفوس له وفهم ما عليه في كل درجة، بما يدل على حكمة الشريعة في معالجة النفوس بشكل تدريجي؛ لتحملها على الاستقامة دون مشقة أو تنفير.

3- الرخص: فإن الشريعة رخصت في ترك بعض الواجبات في بعض الأوقات، وفي ذلك مراعاة أحوال الناس النفسية والجسدية والحياتية، كإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر، وتخفيف الصلوات للمسافر، وتركها للحائض والنفساء، وأمثال ذلك.

4- الإثابة على مراعاة نفوس المسلمين: فقد حثت الشريعة على مراعاة أحوال المسلمين من خلال تعظيم ثواب الرحمة بهم ومسامحتهم وسترهم، وتغليظ عقوبة من آذاهم نفسياً أو جسدياً، فعن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ»(2).

5- الترغيب في الشفاعة وإنزال الناس منازلهم: فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشفاعة فقال: «اشفعوا تؤجروا»(3)، وقال أيضًا: «ليسَ منَّا من لَم يَرحَمْ صغيرَنا ويعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا»(4)، فلكل مسلم معاملة مناسبة بحسب قدره من التقوى والعلم والسن.

6- مراعاة الضعف البشري: كالعفو عن الخطأ والنسيان وما أُكره عليه العبد ولو من قول الكفر، قال الله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب: 5)، وقال تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106).

ثانياً: أثر مراعاة النفوس على التزكية:

إن مراعاة النفوس ليست مجرد مسألة هامشية، بل وسيلة أساسية لتحقيق التزكية العامة للمجتمع وترابطه، فالتزكية تتحقق عندما تكون العلاقات بين الناس قائمة على الأخوة والتناصح، وتتجلى آثار مراعاة النفوس على التزكية المجتمعية فيما يلي:

1- إصلاح النفوس وتصويب الأخطاء:

إن مراعاة أحوال النفوس واللين عند النصح والتوجيه يحمي من الإيذاء النفسي؛ ما يُعين على تقبل النصح، ويُسهل على الفرد مراجعة الأخطاء وإصلاحها دون الخوف من اللوم، قال الله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34)، فالنصح بالحكمة يدعم مسيرة التزكية والإصلاح في المجتمع.

2- رقة القلب والتقوى: 

الحرص على مراعاة المشاعر وإقالة عثرات الغير يورث الرقة في القلب ويزيد الإيمان، قال الله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (النور: 22)، وكذلك المصفوح عنه يصيب قلبه رقة، وتزداد بذلك بين الجميع المحبة والألفة؛ ما يضبط بوصلة المجتمع في اتجاه ما يحبه الله ويرضاه.

3- تقوية الروابط بين المسلمين وتحمل المسؤولية:

عندما يُحاط الناس بمعاملة حسنة وتقدير لنفوسهم، يشعرون بالطمأنينة والانتماء؛ ما يقوي أواصر الأخوة، يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وهذا التآزر بين المسلمين يجعلهم جسدًا واحدًا يستشعر مسؤوليته نحو مجتمعه ويتجاوز بذلك التحديات التي تواجهه.

4- نشر الأخلاق الفاضلة:

مراعاة النفوس تُعزز من نشر الأخلاق الحميدة، حتى تسود بذلك الأخلاق الطيبة في المجتمع تلقائياً، ويتحقق بذلك مقصد البعثة النبوية الأسمى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»(5)، فكلما ارتقى أفراد المجتمع في أخلاقهم؛ اقتربوا من هذا التمام.

ثالثاً: حدود مراعاة النفوس وضوابطها:

ورغم اهتمام الإسلام بمراعاة نفوس الناس وأحوالهم، فإنه وضع حدودًا لها وضوابط، ومن أهمها ألا يُتهاون في حدود الله بحجة هذه المراعاة، ومعلوم ما حدث في قصة المرأة المخزومية، فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 

فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟»، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: «إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»(6). 

فرغم أن مقصد أسامة لم يكن إلا لمراعاة حال قوم هذه المرأة وشرفهم العالي، ولكن جاء الجواب مبيناً بشكل لا لبس فيه بأن اعتبار حدود الله ومحارمه أهم وأعلى وأشرف من أي اعتبار آخر.

إن مراعاة نفوس الناس ليست مجرد أدب فردي، بل ضرورة مجتمعية تُحقق التزكية في المجتمع المسلم، وتُسهم في خلوه من الأحقاد والضغائن، وهي باب عظيم من أبواب العبادة التي يُتقرب بها إلى الله، وتُحقق بها المقاصد الشرعية.

 

 

 

 

 

__________________

(1) متفق عليه.

(2) رواه البخاري.

(3) رواه النسائي، وصححه الألباني.

(4) رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وصححه الألباني.

(5) رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.

(6) رواه البخاري.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة