مستقبل اليهود في فلسطين كما تقرره سورة «الإسراء» (1 - 2)

صراع بين رسالتين
قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ
لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {1} وَآتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ
مِن دُونِي وَكِيلاً {2} ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ
عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء)، لسورة «الإسراء» اسم توقيفي آخر هو سورة «بني
إسرائيل»، وقد بدأت بالحديث عن إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، ثم أشارت إلى البركة التي جعلها
الله في المسجد الأقصى وما حوله، ثم انتقلت مباشرة انتقالاً تاريخياً من الرسالة
الإسلامية إلى رسالة موسى نبي إسرائيل عليه السلام، وإلى التوراة وما كلف الله بني
إسرائيل فيها.
وأخبرتنا عن إفسادين كبيرين مقترنين
بالعلو الكبير يقعان على أيدي اليهود، وأطلعتنا على وضع اليهود في كل منهما، وحددت
ملامح الرجال العباد الربانيين، الذين يزيلون الإفسادين اليهوديين، وكان تركيزها
على الإفساد الثاني اليهودي أكبر.
إن الله يريد تعريفنا على طبيعة صراعنا مع اليهود وهو صراع بين رسالتين: رسالة الحق التي يمثلها المسلمون ورسالة الباطل
التي يمثلها اليهود وسيبدأ على أرض المدينة وينتهي على الأرض المباركة.
مظاهر البركة حول «الأقصى»
قد يخطئ بعض الناس في فهم البركة فيما
حول المسجد الأقصى، فيقصرها على البركة الزراعية فهي الأرض التي تدر لبناً وعسلاً،
صحيح أن هذه البركة موجودة لكنها بركة من بركات كثيرة، ومظهر من مظاهر البركة
العديدة:
فهي مباركة بركة إيمانية، فللإيمان فيها
وجود راسخ ثابت أصيل، قبل إبراهيم عليه السلام وبعده، وهي بلاد نبوات ورسالات، وهي
مباركة بركة إيمانية قديمة ومعاصرة ومستقبلية، فتاريخها الأصيل هو تاريخ للإسلام
والإيمان والعبودية لله.
وهي مباركة بركة جهادية حضارية حركية،
فعليها كان يسجل التاريخ الإيماني منعطفاته الخطيرة وأحداثه العظيمة، وعليها كان
يسجل التاريخ الجاهلي هزائمه ونكساته وزواله، التاريخ عليها حي فاعل متحرك لا
يتوقف، وتُقدم أعوامه وشهوره وأيامه مفاجآت عجيبة وأحداثاً خطيرة ومعارك فاصلة،
وزوال دول وأنظمة وولادة أخرى، عليها قُصم الرومان والفرس والصليبيون والتتار،
وعليها سيقصم الله اليهود ويدمر كيانهم، وعليها سيقتل الله المسيح الدجال وعليها
سيبيد الله جحافل يأجوج ومأجوج.
وهي مباركة بركة سياسية، فهي أرض الابتلاء
والامتحان، وهي أرض الكشف والفضح، هي التي تكشف الخونة، وتفضح العملاء والرايات
والشعارات والدعوات.
سر الربط بين المسجدين
ربطت سورة «الإسراء» ربطاً دقيقاً بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهناك سر بديع لطيف للربط بين المسجدين، فمن بعض
حِكم هذا الربط:
1 - المسجد الأقصى وما حوله شهد وجود
رسالات سابقة، منها اليهودية والنصرانية، كان أصحابها هم الخلفاء على الناس،
والأمناء على الدين والإيمان، والوارثين للأرض المباركة، والمسجد الحرام شهد بداية
الرسالة الجديدة الخاتمة، وولادة الأمة الإسلامية أمة الخلافة والوراثة والأمانة، فبما
أن الأمة الجديدة تقيم حول المسجد الحرام، فلا بد لها كي تحقق خلافتها وأمانتها
على البشرية من أن تتملك ما حول المسجد الأقصى، وأن ترثه هي من الذين يقيمون حوله.
2- أن السورة تريد من المسلمين أن
يُحسنوا النظر للمسجد الأقصى وما حوله فهو مبارك ومقدس كبركة وقدسية المسجد الحرام
وما حوله.
3- تحذير المسلمين من المؤامرات المعادية
ضد المسجدين، ومن أطماع الأعداء الكافرين في المسجدين، وأن الخطر الذي يتهدد
المسجد الأقصى، هو الخطر الذي يتهدد المسجد الحرام، فلما أخذ الصليبيون الأقصى وما
حوله، واستقروا فيه، توجهت أنظارهم وبرامجهم ومطامعهم نحو المسجد النبوي في
المدينة المنورة، والمسجد الحرام في مكة المكرمة، فقام أرناط، ملك الكرك الصليبي،
بعدة محاولات لاحتلال بلاد الحجاز، كادت تنجح لولا أن الله هيأ لهذه الأمة صلاح الدين الأيوبي.
4- أن السورة تقدم للمسلمين المستضعفين
في مكة المحاربين هناك بشرى ربانية، بالفرج والنصر والتمكين، فستنتهي تلك المرحلة
الحرجة التي يعيشونها في مكة، وسيكتب الله لهم التمكين، فيفتحون البلاد، ويصلون
للمسجد والأرض المباركة، متابعين خطى رسولهم صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء،
ويفتحون تلك البلاد، ويقيمون عليها حكم الله، ويعيدون تشييد المسجد الأقصى وبناءه،
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان ممهداً لفتح بلاد الشام، وكان إسراؤه إلى المسجد
الأقصى إرهاصاً ربانياً بفتح المسلمين الحقيقي القادم لهذه الأرض.
إفسادان لبني إسرائيل
قال سبحانه: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ
لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً {4}
فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً {5}
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً {6} إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ
لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ
وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً {7} عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ
وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) (الإسراء).
وقال تعالى في آخر السورة عن الإفساد
الثاني: (وَقُلْنَا مِن
بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ
جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً) (الإسراء: 104).
اختلف العلماء في تفسيرهم للإفسادين،
ولكن جميع التفاسير السابقة لا تنطبق عليها الأحداث التي وردت في الآيات فلا بد من
إعادة النظر في فهم النصوص وأحداث التاريخ، لقد علا اليهود قديماً وأفسدوا إفسادات
كثيرة، ونظراً لربط الآيات الكريمة بين المسجد الأقصى والتاريخ اليهودي فإننا نؤكد
أن الإفسادين متعلقان بالمسلمين بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
إفسادهم الأول في المدينة أتى اليهود إلى
يثرب هاربين من الاضطهاد الروماني واليوناني الذي صُب عليهم في بلاد الشام، وأُعجب
العرب بما عند اليهود من مال وعلم وثقافة، وتفنن اليهود في التحكم بالعرب والإفساد
بينهم وامتصاص خيراتهم وإخضاعهم، وكانوا يبشرونهم بقرب ظهور نبي، ويهددونهم بأنهم
سيتبعونه ويقتلون العرب معه، ولكنهم لما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر
الناس عداوة له، وتآمروا على قتله وحاربوه مع القبائل العربية الجاهلية.
(فَإِذَا
جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا)؛ «إذا» ظرف لما يستقبل
من الزمان؛ أي أن المجيء يأتي بعد نزول آيات الإسراء المكية، وبالتالي فإن عباد
الله الربانيين سيكونون أيضاً بعدها، (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ)؛ إن التعبير بالبعث مقصود ومراد، فالله
بعث الصحابة بعثاً من العدم فلم يكن للعرب في الجاهلية أية منزلة، كما أن كلمة «بعثنا»
توحي أن مجيء هؤلاء الربانيين لم يكن متوقعاً فقد بعث الله الصحابة بعثاً فأزالوا
إفساد اليهود وورثوا قوة اليهود، الصغيرة في المدينة، وقوة فارس والروم الكبيرة في
العالم.
(عِبَاداً
لَّنَا)؛ هذه الجملة لا تنطبق إلا على الصحابة
لأن الله سماهم «عباداً» وأضافهم إليه «لنا»، إن كلمة عباد لا تنطبق على الكافرين
السابقين الذين نسب لهم المؤرخون إزالة الإفسادين مثل بختنصر وغيره، هناك فرق بين
كلمتي عباد وعبيد لأنه لا ترادف في كلمات القرآن، فكلمة «عبيد» ذُكرت في القرآن
الكريم خمس مرات في الكلام عن الكفار ومعظمها بصيغة: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (فصلت: 46)؛
أي أن الله يحاسب الكفار بعدله، أما كلمة «عباد» فهي مذكورة خمساً وتسعين مرة منها
أكثر من تسعين مرة عن المؤمنين، إن الألف في هذه الكلمة توحي بالعزة والكرامة وهي
صفات المسلم.
(أُوْلِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ)؛ كانت قوة الصحابة
وبأسهم في مواجهة اليهود في جانبين: الجانب المادي الذي تمثل في شدة قتالهم لليهود
ويشهد عليه حصارهم لبني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة ومحاربتهم في خيبر
وإخراجهم منها، والجانب المعنوي الذي تمثل في تحديهم لليهود وإذلالهم لهم، ويشهد
عليه مواقف أبي بكر، وعمر، وعلي وعبادة بن الصامت، وعبدالله بن رواحة وغيرهم.
___________________
من كتاب «حقائق قرآنية حول القضية
الفلسطينية» للدكتور صلاح الخالدي.
المصدر: جامع الكتب الإسلامية.