معجزة الإسلام في التعامل مع المخالف

مضت سُنة الله تعالى في خلقه أن يختلف الناس في ألسنتهم وألوانهم، وأن تتنوع طباعهم وصفاتهم، وأن تتعدد عقائدهم ومذاهبهم، قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118).

والتاريخ يشهد وكذلك الواقع بصدق ما أخبرت به الآيات، وهو أن اتفاق البشر جميعًا على رأي واحد أو عقيدة واحدة أمر لا وجود له، وإن «وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، لكن المذموم بَغْي بعضهم على بعض وعدوانه»(1).

حكمة الاختلاف

ولو شاء الله تعالى لخلق الناس أمة واحدة، لكنه مايز بينهم لحكمٍ عظيمةٍ وغاياتٍ جليلةٍ:

أولاها: ليكون آية بينة على قدرة الخالق جل في علاه، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم: 22).

ثانيتها: ليبتلي الناس بعضهم ببعض، فيظهر المحق من المبطل، والمنصف من الجائر، كما قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48).

ثالثتها: ليقع التدافع بين الناس فيمنع الفساد ويحقق الإصلاح، كما قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: 251)، فبين سبحانه الحكمة من سُنة التدافع وهي حفظ الدين من الانهيار، وحفظ الدنيا من الفساد.

رابعتها: ليحصل التعارف والتكامل، فيكمل بعضهم بعضًا، ويتخذ بعضهم بعضًا سخريًا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) (الحجرات: 13).

المعجزة الأخلاقية

وقد جاءت شريعة الإسلام الخاتمة بضوابط العدل والإنصاف، لدرجة أن موقفها من المخالف يُعد معجزة أخلاقية لا مثيل لها مطلقًا فيما عرف البشر من شرائع وقوانين.

وإن القلب ليمتلئ إجلالًا لهذا الدين في عدله وإنصافه ورحمته ورفقه بالمخالفين، يكفي في هذا المقام أن نتأمل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).

فإن الآية الكريمة تضمنت حثًّا قويًّا على العدل والإنصاف للمخالف، وذلك من وجوه عدة:

1- بدأت بالنداء لتلفت انتباه السامعين إلى أهمية ما سيتلى عليهم.

2- ناداهم بصفة الإيمان ليحفزهم ويبعثهم على الامتثال.

3- جاءت صيغة المبالغة (قوَّامين) لتؤكد ضرورة الامتثال للعدل والإنصاف على الدوام في جميع الأحوال.

4- ذكر اسم الجلالة «الله» ليملأ القلوب رهبة، لأن شأن الخلاف والشنآن أنه يوغر الصدور ويدفع إلى الظلم والعدوان، فاقتضى المقام الزجر وإدخال الرهبة إلى القلوب.

5- بينت أن العدل يوصل إلى منزلة التقوى، ترغيبًا فيه.

6- رهبت من الظلم بتذكير العباد بالرقابة الإلهية وعلمه تعالى بدقائق أعمالهم وأحوالهم.

هذا هو الإسلام، حتى في حالة الخصومة، يستبقي أسباب الود في النفوس، بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة.

ونتأمل أيضًا قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2)، فذكر صلى الله عليه وسلم صورًا من العدوان على المخالف، ولم يكتف بتحريمها، بل أعلن أنه خصم يوم القيامة لمن اقترف شيئًا منها.

ونتأمل كذلك موقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد جاء في صحيح الإمام البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال في وصيته عند وفاته: «وَأُوصِيهِ –أي الخليفة من بعدي- بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ»(3).

فهذا الخليفة الملهم، وهو ينازع الموت ويكابد ألم الجراح، لم ينس الوصية بالمخالفين من أهل الذمة، فيوصي بالوفاء لهم، وبحمايتهم، بالرفق بهم! فلله دره من دين!

وقد بلغ الإسلام في السماحة الحد الذي جعل فيه المخالف جزءًا من مكونات دولة الإسلام، وذلك حين وضع مبادئ العدل والحرية والتعاون في دستور دولته الأولى- دولة النبوة والخلافة الراشدة- وأنصف فيها المخالفين من اليهود والنصارى وغيرهم.

فقد جاء في المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود، التي أصبحت دستورًا للمدينة: «وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ، غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ.. وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ، وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ(4) إلَّا نَفْسَهُ، وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنَّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ.. وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ..»(5).

كما جاء في المعاهدة التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران: «وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهِمْ جِوَارُ اللَّهِ وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ»(6).

ففي الإسلام لا حرج أن يتعايش المختلفون في العقائد والأفكار والمناهج -بالعدل والبر- حتى يأتي يوم يحكم فيه الله سبحانه بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (يونس: 93)، وقال: (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون) (الحج: 69).

هذا مع وجوب القيام بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.




___________________

(1) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، الإمام ابن القيم، ت. علي بن محمد الدخيل الله (2/ 519)، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1408هـ.

(2) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب «الخراج والإمارة والفيء»، باب «في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا في التجارات» (3052)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).

(3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب «فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب «قصة البيعة والاتفاق على عثمان» (3700).

(4) تغا يوتغ: هلك وأثم وفسد وساء خلقه وساء قوله، المعجم الوسيط (2/ 1010).

(5) السيرة النبوية: ابن هشام، ت. طه عبدالرؤوف سعد (3/ 34-35)، ط دار الجيل بيروت، ط1، 1411هـ.

(6) الطبقات الكبرى، ابن سعد (1/ 220)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1410هـ.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة