مكانة «صحيح البخاري» في المجتمع الإسلامي
وردت كثير من الآيات القرآنية التي تدعو المؤمنين إلي طاعة رسول الله ومحبته والصلاة عليه، وأن طاعته ومحبته من طاعة الله ومحبته، ومن تلك الآيات قول الله سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران: 132)، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأيها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (الأحزاب: 56).
وقد احتلت السنة النبوية مكانة كبيرة في المجتمعات الإسلامية، ونالت عناية المحدثين وتنقيحها سندًا ومتنًا من مئات الآلاف من الروايات التي تناقلها الرواة بالسند المتصل عن رسول الله؛ فأخضعوها للفحص والتمحيص للوقوف على الصحيح منها، ورد الزائف؛ وألفوا كتبًا تحمل عنوان «الجرج والتعديل» للحكم على رواة الحديث، وكتب «علل الحديث»، و«مشكل الحديث»، و«طبقات الرواة»، ولم يذروا شاردة تتصل بالسُّنة النبوية إلا قاموا بتقيحها وتمحيصها حتى قدموا لنا سُنة رسول الله في أعلى درجات الصحة الثابتة عن رسول الله.
1- مكانة البخاري وكتابه «الصحيح»:
يأتي كتاب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري المتوفي سنة 256هـ المسمى «الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ﷺ وسننه وأيامه»، الذي اشتهر مختصرًا بـ«صحيح البخاري» في مقدمة كتب الأحاديث التي بلغت أعلى درجات الصحة عن رسول الله ﷺ.
وأجمع المحدثون على إمامة البخاري في الحديث، ونال أعلى ألقاب المحدثين مثل: «الحافظ»، «أمير المؤمنين في الحديث»، وهو لقب يطلق على من يحفظ مائة ألف حديث سندً ومتنًا، وأجمعوا على وجوب العمل بما فيه؛ فإجماع المحدثين على هذا الكتاب كإجماع الفقهاء على فعلٍ ما أنه حلال أو حرام، وإذا أجمع أهل العلم على شيء؛ فسائر الأمة تبع لهم.
وقد كثر ثناء العلماء على علم الإمام البخاري وكتابه الصحيح، ومنها: قول ابن تيمية: «فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن»؛ ويقول ابن خلدون في «مقدمته»: «إذا وجدنا طعنًا في بعض رجال الأسانيد بغفلةٍ أو بسوء حفظٍ أو ضعفٍ أو سوء رأي؛ تطرّق ذلك إلى صحّة الحديث وأوهن منها، ولا تقولنّ: مثل ذلك ربّما يتطرق إلى رجال الصحيحين؛ فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول، والعمل بما فيهما، وفي الإجماع أعظم حمايةٍ وأحسن دفع»؛ ويقول الشوكاني في «نيل الأوطار» (ج1، ص21): «واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث، لأنهما التزما الصحة، وتلقت ما فيهما الأمة بالقبول».
وانطلاقًا من تمسك المجتمعات الإسلامية في عصورها المختلفة بالقرآن الكريم والسُّنة النبوية، فقد اهتموا بسُنة رسول الله في كتاب البخاري، ولم يحظَ كتاب في السُّنة بما حظي به؛ فنال اهتمامًا كبيرًا من السلاطين والأمراء والعامة فضلًا عن العلماء على اختلاف مذاهبهم في المشرق والمغرب، ولن نستطيع تتبع إجلال الأمة لسُنة رسول الله ﷺ ممثلة في اهتمامها بقراءة وسماع وحفظ صحيح البخاري في جميع العصور؛ لذا سوف نقتصر على جانب منها في المجتمع المملوكي في مصرو بلاد الشام.
2- اهتمام العلماء بصحيح البخاري في العصر المملوكي:
كان مجتمع مصر وبلاد الشام في العصر المملوكي يحرصون على التقرب إلى الله بحفظ وقراءة حديث رسول الله ﷺ من صحيح البخاري وبيان ما يهدف إليه؛ فتشير المصادر المملوكية إلى بيان منزلة العالم بما قرأ من البخاري كاملاً أو أجزاء منه حيث تعتبر قراءته من الشهادات العلمية التي يفتخر بها، فنجد عبارتهم «وكذا قرأ الكثير من البخاري» أو «قرأ عليه البخاري»، «وهو إنسان خيّرٌ ساكنٌ يقرأ البخاري»، و«شرع في الجمع بين شرحي ابن حجر والعيني على البخاري»، و«يستحضر كثيرًا من البخاري»، و«كذا شرح جملة من البخاري»، «قرأ البيوع من صحيح البخاري إلى الصيد والذبائح وهو نصفه»، و«قرأ بعض البخاري»، و«قرأ الكثير من البخاري»، و«سمع ترجمة البخاري»، و«سمع بعض البخاري»، و«سمع حضورًا نصف البخاري»، و«كان يقرأ البخاري بتواتر«، وقرأ ابن القطان المتوفي سنة 898هـ في المدنية صحيح البخاري.
وكان صحيح البخاري من مناهج تعليم الصبية في العصر المملوكي؛ فكان الأب يحرص على أن يُقرئ ابنه أو يسمعه صحيح البخاري، ويشير إلى ذلك الصفدي بقوله: اعتنى به والده، وأسمعه صحيح البخاري من الشيوخ، ويستوي في ذلك البنين والبنات؛ فكان صحيح البخاري من مسموعات فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر الشيخة المسندة المتوفية سنة 710هـ، وفاطمة بنت إبراهيم المسندة العابدة، أم محمد البطائحية المتوفية سنة 711هـ وروته مرات.
وكانت تعقد حلقات لقراءة صحيح البخاري كاملاً في المدارس والجوامع والبيوت، ويحظى من حضر المجلس وسمعه بشهادة أنه «سمع ختم البخاري»، و«سمع ختم البخاري في الظاهرية» (المدرسة الظاهرية)، ولذا نجد في المصادر عبارات مثل: «قرأ بعض البخاري والمجلس الذي عمل في ختمه بعد أن كتبه»، وكان شمس الدين بن صدقة المتوفي سنة 878هـ يقرأ البخاري على العامة بالأزهر.
3- اهتمام الخطاطين بصحيح البخاري:
وقد اهتم الكتَّاب والخطاطون بنسخ صحيح البخاري لكثرة إقبال الناس على اقتنائه في بيوتهم وفي المدارس والجوامع حيث يتدارسه الناس، فقد كتب شهابُ الدّين النويريّ (ت 733هـ) البخاري ثماني مرَّات، وكان يكتب النسخة ويقابلها، ويجلّدها ويبيعها بسبعمائة درهم وبألف، وبعد ما يقرب من قرن ونصف نسخ برهان الدين الطائي (ت 873هـ) نسخًا من البخاري وباع النسخة منه بخمسين دينارًا، وكان بالمدرسة الظاهرية القديمة بالقاهرة عدة نسخ من البخاري، وطلب أمير دمشق سيف الدين تنكز (ت 741هـ) من الشيخ بهاء الدين بن خطيب بعلبك الكاتب أن يكتب له نسخة من البخاري، وتعلمت فاطمة بنت الإمام علم الدين البرزالي الخط، وكتبت «صحيح البخاري»، وكملته قبل موتها بأيام قليلة، وكانت نسختها بدمشق من النسخ التي يعتمد عليها، وينقل منها.
4- قراءة البخاري من القربات:
وكان من جملة أعمال البر والصدقات الوقف على من يقرأ صحيح البخاري بسنده، فقد أوصى ابن صفّ عذاره (ت 709هـ) بثلث ماله أن يُشترى به وقفٌ للصدقة، ووقف وقفًا على من يقرأ صحيح البخاري كل سنة في شهر رمضان بالإسناد؛ وكان عبدالله بن الصنيعة المصري (ت 734هـ) يُقرئ في داره صحيح البخاري، وكان يسمع البخاري في ليالي رمضان، وليلة ختمه يحتفل بذلك.
وكان سلاطين المماليك يقدرون صحيح البخاري، ويطلبون من جلسائهم من الفقهاء أن يقرؤوا في مجلسه البخاري التماسًا للبركة والهداية، وسار على هذا النهج حتى أواخر دولتهم، ففي عهد السلطان قايتباي المحمودي (ت 902هـ) كان لا بد لمن يتولى الإمامة بمسجد القلعة أن يكون صحيح البخاري من قراءاته ومسموعاته، ويعقد حلقة لقراءة البخاري كاملًا، وقد طلب السلطان قايتباي ممن يجالسه من الفقهاء أن يقرأ له بعضًا من صحيح البخاري، وكانت المناظرات العلمية بين العلماء في القلعة بحضرة السلطان يتعلق جانب منها بصحيح البخاري.
_______________________
1- ابن حجر العسقلاني (أحمد بن علي المتوفي 852هـ): فتح الباري شرح صحيح البخاري، المطبعة السلفية، القاهرة، 2015.
2- الذهبي (محمد بن أحمد المتوفي 748هـ): سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، 1405هـ/ 1985م.
3- السخاوي (محمد بن عبد الرحمن المتوفى 902هـ): الضوء اللامع بأعيان القرن التاسع، القاهرة، 1354هـ.
4- السيوطي (عبدالرحمن بن أبي بكر المتوفى٩١١هـ): طبقات الحفاظ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ.
5- الصفدي (خليل بن أيبك المتوفى 764هـ): أعيان العصر وأعوان النصر، تحقيق: د. على أبو زيد وآخرون، دار الفكر، دمشق، 1997م.