من أسباب التخلف الحضاري للمسلمين إغلاق باب الاجتهاد

ما الاجتهاد؟ ولماذا ظهرت دعوى إغلاقه؟
الاجتهاد هو بذل
الطاقة في تحصيل حكم شرعي، وقد تعالت النداءات بإغلاق باب الاجتهاد الفقهي حوالي
القرن الرابع الهجري، وكانت نيات المنادين به صالحة بالرغم مما آلت إليه من نتائج
وخيمة، فقد رأى أصحابها شيوع المذاهب الفقهية واستقرارها، وما صحب ذلك من تعصب
مذهبي، وعكوف على نصوص الفقهاء السابقين، وإثارة الخلافات المذهبية، مع ضعف
الملكات والوازع الديني، حتى وصل الأمر إلى ادّعاء الاجتهاد من غير أهله، وممالأة
الحكام في أهوائهم.
ولذلك، أعلن
كثير من العلماء غلق باب الاجتهاد لسد الطريق أمام أنصاف العلماء، وللوقوف حصرًا
على أقوال المذاهب السائدة، بظن ذلك من باب السياسة الشرعية التي تعالج حالة
قائمة، أو ظرفًا طارئًا، ثم شاع ذلك، وكان من أثره أن فترت الهمّة، وانصرف معظم
الفقهاء إلى تدوين الكتب المذهبية والخلافية، واختصارها في متون، ثم وضع الحواشي
عليها، وشرح الحواشي فيما لا طائل منه.
هل توقف الاجتهاد فعلاً؟
ولا يعني ذلك أن
عصور الإسلام –منذ تصاعد دعوى ترك الاجتهاد– خلت من مجتهدين كبار، كان وجودهم
قدحًا في دواعي ذلك وضرورته، ومنهم في القرن الثامن الهجري وحده: ابن تيمية (ت
728هـ)، وابن القيم (ت 751هـ)، وشمس الدين الذهبي (ت 748هـ)، وفي أخرياته عاش ابن
خلدون (ت 808هـ)، أحد المجددين الكبار في تاريخ الإسلام.
ومن المؤكد أن
مسيرة الاجتهاد قد تواصلت بالنظر إلى امتداد تاريخ الأمة، واتساع ساحات أراضيها،
ورحابة عالَمها، لكن الغالب على الفكر الإسلامي آنذاك كان القول بإغلاق باب
الاجتهاد.
مخاوف حديثة من فتح الباب
وظلت هذه
الصيحات بإغلاق باب الاجتهاد تتردد -من لدن علماء كبار- على مدى قرون، حتى عصرنا
الحديث لأسباب شتى، ومن هؤلاء سعيد النورسي (1876 - 1960م) في «رسالة الاجتهاد»،
بالرغم من أنه يقرر ضرورة الاجتهاد؛ إلا أنه تخوف من انفتاح أبوابه، وانشعاب
الآراء بسببه في وقت يحارب فيه الإسلام وأصوله وثوابته.
لماذا يخالف إغلاق الاجتهاد طبيعة الإسلام؟
والدعوة إلى
إغلاق باب الاجتهاد تخالف طبيعة الإسلام نفسه، فهو الدين الخاتم الذي ينبغي أن
يواكب حاجات البشر إلى قيام الساعة، الذي تعهد الله تعالى لأمة الإسلام «أن يبعث
لهذه الأمة على رأس كلِّ مِائة سنةٍ من يُجَدِّدُ لها دينَها» (سنن أبي داود، 4291)،
وهو الدين الذي يسعى إلى نشر مبادئه، وسلطانه شريعته، وذلك لا يكون إلا بالاجتهاد
في شرعه الواسع المرن، «فترك الاجتهاد هو الذي رد بعضهم إلى البداوة التي قُضي
عليها، أو إلى ما يقرب منها، وطوَّح ببعضهم إلى التفرنج والإلحاد، والسعي إلى
البعد عن الدين»(1).
العودة إلى المنابع.. الكتاب والسُّنة
إن أساس
التعاليم الإسلامية ومعينها كتاب الله وتعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدًا، وإن كثيرًا من الآراء والعلوم التي
اتصلت بالإسلام؛ وتلونت بلونه؛ تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها،
ويجب «أن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية، حتى لا نقيد أنفسنا غير ما يقيدنا
الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام للبشرية جميعاً»(2).
آثار الجمود.. العجز عن مواكبة الواقع
وأدى التنادي
بترك الاجتهاد؛ والاكتفاء بالموروث الفقهي وما يتفرع عنه؛ إلى الزهادة في فقه
نوازل عصورهم، ثم ضعف ملكة التفكير النابه عندهم، ثم العجز عن مواجهة التحديات
العلمية الثائرة في زمانهم؛ ما باعد بالتدريج بينهم وبين التشريع والسياسة والمال،
فآلت الأمور إلى الارتحال عن شريعة الإسلام إلى تشريعات غيره، وابتعاد علمائه عن
تيار الحياة الزاخر من حولهم، حتى تأسى خير الدين التونسي (1820-1890م)، الوزير
الأول في تونس، ثم الصدر الأعظم في الدولة العثمانية، على حالهم في زمانه، فقال: «أفيحسن
من أُساة الأمة (أي أطباؤها) الجهل بأمراضها؟»(3).
وما يفيدهم أن
علموا أدواء أمم سالفة، وعصور ماضية، وإن كانت عصور زهو وألق؟ وتجاهلوا نصيحة شهاب
الدين القرافي المالكي (ت 684هـ) وهو يقول: «ولا تجمد على المسطور في الكتب طول
عمرك»(4)، واستراحوا إلى الاسترزاق من أموال الأوقاف التي دأب أصحابها
على وقفها لأصحاب المذاهب، فأصبحت أزمَّتها بأيديهم.
الاستبداد السياسي والجمود الفقهي
وسعد السلاطينُ
بفضح جهل هؤلاء العلماء بالواقع المتجدد، وتغييبهم عن مشكلات الأمة ومصالح الرعية،
وتوجيه الحكام بشأنها، والإنكار عليهم إن جاروا وبغوا، «فلا تكاد تطلب الحكومة
منهم شيئاً إلا ونجد فيهم من يفتيها؛ ولو بالتأويل والخروج عن صحيح المذهب، إذن لا
يمكن خروج الأمة الإسلامية من جحر الضب الذي دخلت فيه إلا بالاجتهاد»(5).
الاجتهاد للعلماء والاتباع للعامة
ولا ريب أن الاجتهاد يحتاج إلى أدوات لا يملكها
إلا أهله، أما عامة الناس فلهم اتباع مذاهبهم، «ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في
أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إمامًا من أئمة الدين، ويحسن به –مع هذا الاتباع– أن
يجتهد ما استطاع في تعرُّف أدلة إمامه، وأن يتقبّل كل إرشاد مصحوب بالدليل، متى
صحَّ عنده صلاح مَنْ أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم
حتى يبلغ درجة النظر»(6)؛ أي القدرة على الترجيح والاجتهاد ولو جزئيًا.
اقرأ أيضاً:
- حول التخلف الحضاري في العالم الإسلامي وأسبابه
- من أسباب التخلف الحضاري للمسلمين إهمال العلوم التجريبية
_______________
(1) رشيد رضا:
الخلافة، ص80.
(2) رسائل
الإمام البنا، ص 288.
(3) أقوم
المسالك، ص8.
(4) الفروق (1/ 176).
(5) رشيد رضا:
الخلافة، ص 97 – 98.
(6) رسائل
الإمام البنا، ص236.