من همسة المذياع إلى سحرة فرعون.. كيف يشكل الإعلام وعينا دون أن ندري؟!

مع عودة المدارس وتوصيل الأولاد إلى
مدارسهم، أمارس عادتي اليومية في التقليب بين المحطات الإذاعية، وتوقفت عند إحدى
المحطات وكان هذا المشهد: حوار بين مذيعين كان عفويًا وممتعًا، ينتقل بسلاسة بين
بشائر تحسن الطقس والدخول إلى الأجواء الباردة.
وبينما أنا مندمج في الاستماع، شعرت بشيء
غريب يحدث في عقلي؛ لقد بدأت أفكر تلقائيًا: ربما أحتاج لشراء ملابس شتوية جديدة،
ولمَ لا أبحث عن عروض الشراء؟!
لم يكن هناك إعلان صريح، بل كانت مجرد
كلمات عابرة، لكنها كانت كافية لتزرع فكرة وتدفعني نحو سلوك معين.
في تلك اللحظة، توقفت عن التفكير في
الملابس والبحث عن العروض، وانتبهت إلى القوة الهائلة التي كنت أتعرض لها: إنها
قوة الإعلام في توجيه الوعي، وإرسال رسائل غير مباشرة تدفعنا للبحث عن شيء معين،
غالباً ما يكون مرتبطاً بثقافة الاستهلاك.
همسات الاستهلاك والرسالة الموجهة
ما حدث معي لم يكن مصادفة، بل هو تصميم
دقيق ومدروس، لم يقل المذيعون: اذهبوا واشتروا، بل تحدثوا عن جمال الأجواء الشتوية
ومتعة التسوق، ثم أشاروا بشكل عابر إلى أن الحلول موجودة عبر خدمات الشركات
التمويلية التي تسهل عمليات الشراء، لقد صنعوا الحاجة، ثم قدموا الحل على طبق من
ذهب، كل ذلك في إطار حديث ودي لا يثير الشكوك.
هذه هي عبقرية الإعلام الحديث؛ فهو لا
يفرض عليك رأياً، بل يهمس في أذن وعيك بفكرة تبدو وكأنها نابعة منك، يجعل
الاستهلاك الحل الطبيعي للملل، والشراء الطريق الأوحد للسعادة، والاقتراض الوسيلة
المنطقية لتحقيق الأحلام؛ وبهذه الطريقة، نتحول تدريجياً إلى مستهلكين نُنفّذ ما
يُملى علينا ونحن نظن أننا أصحاب القرار.
الإعلام قديماً وحديثاً
وهنا، قفز إلى ذهني مشهد تاريخي بليغ
يوضح أن هذه الآلية ليست جديدة، لقد كان فرعون طاغية، وأدرك أن السيطرة على
الجماهير لا تكون بالقوة وحدها، بل بصناعة الوعي وتوجيهه، من كان إعلامه في ذلك
الوقت؟ لقد كانوا السحرة.
جمع فرعون السحرة في يوم مشهود، لم يكن
الهدف مجرد مواجهة موسى عليه السلام، بل كان استعراضاً إعلامياً ضخماً موجهاً
للشعب، لقد كانت الجماهير تقف على الجانب الآخر، عقولاً منتظرة لمن يوجهها، مستعدة
لاتباع الغالب، وقد لخص القرآن الكريم حالتهم النفسية بدقة مذهلة في قوله تعالى
على لسانهم: (لَعَلَّنَا
نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) (الشعراء: 40).
لم يقولوا: لعلنا نتبع الحق، بل لعلنا
نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، لقد كانت عقولهم مبرمجة على اتباع القوة
والجاذبية، تماماً كما يفعل الإعلام اليوم، فالسحرة هم مذيعو اليوم، والمشاهير،
والمؤثرون الذين يستخدمون سحر الكلمة والصورة ليقودوا الجماهير نحو ما يريدون،
سواء كان منتجاً استهلاكياً أو فكرة.
كيف تعمل الآلة؟
تعتمد آلة الإعلام في تشكيل وعينا على
عدة ركائز أساسية:
- التكرار: الرسالة التي تُكرر باستمرار
تتحول مع الوقت إلى حقيقة لا تقبل الجدل في العقل الباطن.
- الربط العاطفي: ربط المنتجات والأفكار
بمشاعر إيجابية كالسعادة والنجاح والقبول الاجتماعي.
- تقديم الحلول الجاهزة: لكل مشكلة حل
استهلاكي بسيط؛ ما يلغي الحاجة إلى التفكير العميق والنقدي.
- التوجيه غير المباشر: زرع الأفكار
والرغبات في سياق ترفيهي أو إخباري؛ ما يجعلنا أقل قدرة على مقاومتها.
كيف نستعيد وعينا؟
هل الحل هو أن نغلق أجهزة الراديو
والتلفاز ونعتزل العالم؟ بالطبع لا، الحل يكمن في التحول من مُتلقٍّ سلبي إلى مستمع
واعٍ، الحل هو أن نمتلك فلتراً نقدياً، وأن نسأل أنفسنا عند كل رسالة إعلامية: من
المستفيد من هذه الرسالة؟ وما الفكرة التي تحاول أن تزرعها في عقلي؟
إن المعركة الحقيقية اليوم ليست معركة
أسلحة، بل معركة وعي، وكما كان موسى عليه السلام يمتلك عصا الحق في مواجهة سحر
فرعون، فإننا اليوم نمتلك سلاح الوعي النقدي في مواجهة إعلام يهدف إلى توجيهنا،
فلنستخدم هذا السلاح، ولنكن نحن من يشكل أفكارنا.