نحو نموذج دمج إسلامي لذوي الإعاقة

منى حامد

27 أغسطس 2025

232

لا تزال المفاهيم السائدة عند الحديث عن التربية الشاملة لفئة ذوي الإعاقة في بيئاتنا العربية محصورة في أطر الرعاية التقليدية أو العطف العابر، بينما تفرض مرجعيتنا الشرعية أن تقاس قيمة الإنسان بأصل كرامته، لا بسلامة جسده أو اكتمال حواسه، وهو ما أسسه القرآن الكريم بصيغة عموم في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، دون أي استثناء.

هذه الحقيقة العقدية لا تزال بحاجة إلى ترجمة عملية مؤسسية عبر سياسات تربوية وممارسات تستثمر إمكانات ذوي الهمم وتدمجهم في قلب المجتمع، لا في هوامشه، مستلهمة أصلين متكاملين، هما: إزالة الحرج، والدمج الفاعل.

فالتوجيه القرآني لا يكتفي برفع التكليف أو التيسير، كما في قوله تعالى: (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (النور: 61)، بل يؤسس كذلك للمساواة الكاملة والمشاركة العملية، كما أبانت السُّنة النبوية حين جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي عبدالله بن أم مكتوم مؤذناً وإدارياً، وولّاه الصلاة في غيابه، كما روى أبو داود في سُننه، وهو تصرف لا يدل على محض إشفاق ورعاية نبوية فقط، بل إقرار بالحق في الدمج والتمكين والثقة بحق المشاركة في القرار.

من هذا المنطلق، فإن الأُطر الحديثة للتربية الدامجة لذوي الهمم أو ذوي الإعاقة تلتقي في الرؤية العامة مع المبادئ الإسلامية، لكنها تتفاوت في التطبيق والممكنات، فوفق آخر تقارير «اليونسكو» حول المنطقة العربية وذوي الإعاقة، فإن نظم التعليم العام في معظم الدول العربية لم تصل بعد إلى تحقيق الدمج الشامل، إذ تشير بيانات عام 2023م إلى أن نسب التحاق الأطفال ذوي الإعاقة بالتعليم النظامي لا تتجاوز 30% في معظم البلدان، مع نسبة تسرب مرتفعة جداً في المراحل المتقدمة.

ويرتبط هذا الواقع المؤلم بعدة أسباب، أبرزها ضعف برامج المدارس وغياب التدريب المتخصص، وهو ما تدعمه نتائج دراسة ميدانية منشورة في «المجلة السعودية للتربية الخاصة» عام 2022م، خلصت إلى أن أبرز معوقات دمج ذوي الهمم في مدارس التعليم العام هي ضعف برامج إعداد المعلم وضعف الإمكانيات المادية وعدم توافر الموارد التقنية المناسبة.

وقد أوردت الدراسة نفسها أن 65% من العينة رأوا أن غياب البيئة المدرسية الملائمة هو السبب الرئيس لفشل الاندماج الكامل.

وعلى المنوال ذاته، تشير نتائج استطلاع أجرته مؤسسة «معا» للتربية الخاصة في مصر لعام 2023م إلى أن 71% من أولياء أمور ذوي الهمم يفضلون نموذج الدمج الجزئي في مراحل التعليم الأساسية، بسبب قلقهم من صعوبات التفاعل الاجتماعي داخل الفصول العامة، بينما رأى 24% فقط أن الدمج الكامل يجب تطبيقه على جميع المراحل بدون استثناء.

التمكين المستدام

إزاء ذلك، نرى أن النموذج الإسلامي المنشود في دمج ذوي الهمم في مجتمعاتنا يحمل في جوهره ما يتجاوز الدمج المدرسي إلى مفهوم التمكين المستدام اجتماعياً واقتصادياً، فالوقف مثلاً يعد من الأدوات الفعالة في تمويل المؤسسات والمشاريع الخاصة بذوي الهمم، ولعل مثال «مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة» يعد نموذجاً مؤسسياً ناجحاً في هذا الإطار، حيث سخر إمكاناته لدعم البحث العلمي وتمويل برامج التأهيل المهني، وإطلاق حملات المناصَرة المجتمعية بهدف تغيير الصورة النمطية تجاه ذوي الهمم.

أما في مجال التدريب التربوي، فقد أظهرت دراسة استقصائية نشرتها جامعة الإمارات عام 2022م، أن نسبة المعلمين المؤهلين للتعامل مع الطلاب ذوي الإعاقة في مدارس الدولة لا تتجاوز 28% فقط، رغم ارتفاع نسب الدمج الرسمية، وتفسر هذه النسبة المتدنية وجود مشكلات مزمنة في تكييف الوسائل التعليمية والمناهج؛ ما يدفع الأسر في بعض الأحيان للبحث عن بدائل خارجية أو للدعم المنزلي.

غير أن الشواهد التاريخية والشرعية تدفعنا إلى التأكيد أن الدمج الشامل لذوي الهمم لا ينبغي أن يكون مجرد قرار إداري أو ضغوط نمارسها على المدارس والمعلمين، بل منظومة متكاملة تبدأ من إعادة بناء رؤية المجتمع ذاته وفق منهاج نبوي يزكي المثابرين من ذوي الهمم في الجملة، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ» (رواه الترمذي (2396)، وحسنه الألباني).

ففي هذه التزكية النبوية توجيه مباشر للنظر إلى الاختلافات الجسدية والعقلية كاختيار إلهي مقصود، لا قدر عابر أو قصور دنيوي أو «عيب خلقي»، كما يسميه المتأثرون بثقافة الغرب المضللة.

هذا الخطاب في الحقيقة هو عين المشكلة وليس الخطاب الديني كما يزعم من يعلقون واقعنا الاجتماعي البائس دائماً على هذه الشماعة، فالأزمة تتركز في ضعف الإرادة التنفيذية والنقص المزمن في الدعم الفني والمالي للمؤسسات التربوية، إلى جانب إهمال تدريب وتأهيل المعلمين بشكل تخصصي وممنهج.

تحدٍّ تاريخي

إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم أمام تحدٍّ تاريخي، يتمثل في إحياء مفهوم الوقف والمبادرات الاجتماعية المستدامة وتكييف المناهج وتهيئة التعليم الإلكتروني بما يتناسب مع جميع الطاقات، تحقيقاً لمقصد الشمول لا الإقصاء، والتمكين لا الإعالة، فكل خطوة حقيقية نحو التربية الشاملة لذوي الهمم هي التزام ديني وأخلاقي ومجتمعي يحقق المساواة ويمثل ترجمة عملية لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).

هذا الإحياء لا بد فيه من استثمار مبادرات المؤسسات الإقليمية والدولية، ومنها «الإسكوا» التي أطلقت، بالتشارك مع «اليونسكو»، رزمة تدريبية عربية للتعليم الدامج (2022) موجهة للممارسين، وهي مادة مهمة لفرق المدارس.

لدينا أيضاً أمثلة عملية أخرى، مثل اتفاقية الهيئة العامة للأوقاف السعودية مع جمعية «لأجلهم» لتطوير منصة ميسّرة للصم (عام 2021م)، وإطلاق منصة «وقفي» لتمويل مشاريع تخدم ذوي الهمم في المملكة، إضافة إلى دور بحثي ومجتمعي يقوده مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة.

هذا النمط من التجارب يمثل صورة من تعبئة التمويل الأهلي المنظم مع قياس الأثر بشكل منهجي، وهو ما نراه الأنسب لتقليل التذبذب المالي في المدارس الدامجة لذوي الهمم في مجتمعاتنا.


اقرأ أيضاً:

تأثير التنمر على الطفل المعاق

المصنفات التراثية حول الإعاقة

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة