أطفال غزة.. شهادة وفاة للضمير الإنساني

في غزة العزة يختلف معنى اليُتم، فاليُتيم هناك ليس من فقد والديه أو أحدهما فحسب وإنما هو من فقد معنى الحياة ذاتها، فلا أب ولا أُم ولا أخ ولا أخت ولا بيت يأويه ولا مدرسة تحضتنه ولا أصدقاء يلعب معهم أو يرافقهم ولا جيران يعينونه أو يتفقدونه، بل لا شارع أو حارة يعرف ملامحهما كما كانت.

إنه ذلك الطفل الذي امتلأت ذاكرته بصور القصف والقتل والدمار والجوع والتشرد، وحوصرت روحه بأصوات الانفجارات وصراخ الضحايا حتى صار الخوف هو الرفيق، وشوارع الدم هي الطريق والسماء سجل مفتوح لذكرياته الدامية، فلم يعد حلمه البحث عن لعبة أو قطعة حلوى، بل عن أُنس ودفء وكسرة خبز واعتراف بحق في الحياة.

الشعور بالفقد

كل شيء في غزة تغير بعد «طوفان الأقصى»، فلم يعد شيء كما كان، فعاش أهل غزة شتى أنواع الحرمان، وفقدوا كل مقومات الحياة، فلا طعام ولا أمان ولا مأوى ولا اطمئنان، بل إنه وبدلاً من أن يلعب أطفال غزة بالدمى ككل أطفال العالم، أضحوا هم الدمى، لكن اللاعب بهم متغطرس متجبر ومصاص دماء لا يعرف للإنسانية معنى ولا للرحمة طريقاً.

كل صباح يستيقظ أطفال غزة على فراغ يملأ المكان وغياب يوجعهم أكثر من الجوع والبرد وطلقات الرصاص، كل منهم يبحث بعينيه الصغيرتين عن وجه أُمٍ كانت تبتسم له عند الفجر، أو عن يد أب كانت تمسح دموعه، فلا يجد سوى الركام والرماد وقد فقد البسمة والسند.

تفزعك –وبلا أدنى مبالغة– تلك الأرقام التي تخبرنا بها المنظمات الدولية حول عدد الأطفال الذين فقدوا أحد الأبوين أو كليهما، فبعضها يشير إلى أنه من 38 ألفاً إلى 39 ألف طفل تقريباً فقدوا الأب أو الأم، وأن نحو 17 ألفاً منهم فقدوا كلا الوالدين.

ما أن ترد على مسامعك هذه الأرقام المفزعة حتى تصرخ بلا وعي: ما ذنب هؤلاء الأطفال؟! فلا تجد إجابة مقنعة إلا أن هؤلاء ينتمون لشعب غزة الصامد الذي يدافع عن حق مسلوب وسط صمت وتواطؤ من القريبين قبل البعيدين.

وتتواصل المأساة بلا توقف، ولا تنتهي عند حد فقْد هؤلاء الأطفال لآبائهم وأمهاتهم، فأحياناً يجد من كان قدره اليُتم يداً حانية ترفق به، وتمنحه شعاع ضوء لمستقبل مشرق في أفق يبدو معتماً، لكن ولأن أطفال غزة ليسوا ككل الأطفال فمعاناتهم تشبه ذلك الفضاء الواسع الذي ليس له نهاية، فالفقد في غزة كطوفان لا يرحم، فهو يغمر كل شيء.

الأمان الضائع

على مدى أكثر من عامين، تعطلت مظاهر الحضارة والمدنية في غزة بعد أن غاب عن أهلها كل ما حازته البشرية من مكتسبات تحقق لأبنائها الحد الأدنى من الأمن والاستقرار، حيث ترك نحو مليوني غزي بيوتهم ومساكنهم فارين بأنفسهم من شبح الموت في عمليات نزوح دائمة من مكان إلى مكان أملاً في الحصول على الأمان الذي يبدو أنه ضاع في غزة.

وأما أطفال غزة فكانوا أول الضحايا، فقد انطفأت في قلوبهم كلّ أضواء هذا الأمان، فصاروا يتعلّمون معنى اليُتم والفقد، ويتجرعون الخوف والفزع قبل أن يتعلّموا القراءة والكتابة أو يتذوقوا لقيمات تقيم أودهم؛ ما انعكس عليهم نفسيًا وروحيًا، إذ يحيا الطفل الغزّي في دائرة من الخوف والحنين والارتباك تتنازعه الذكريات وصور الوداع الأخيرة.

وما أقسى أن يجتمع الخوف مع الجوع والمرض! فتلك ثلاثية تجعل من الحياة عذاباً لا يحتمل، ومن الليل انتظار لفجر قد لا يجيء فيغدو البقاء نفسه وجعاً متواصلاً لا يرحم.

وها هي تقارير المنظمات الأممية تكشف بعضاً من حجم الفاجعة؛ إذ أكدت منظمة «يونيسف» أن نحو مليون طفل في غزة محرومون من المساعدات الحيوية لفترات طويلة؛ ما ضاعف من خطر الأمراض وسوء التغذية وغياب الرعاية الصحية الجسدية والنفسية على حد سواء بعد أن تم إغلاق أغلب المستشفيات ومراكز العلاج.

لكن ما حاجتنا إلى تقارير المنظمات الدولية وواقع غزة أبلغ شاهد على المأساة، فهناك مات المئات من الأطفال جوعاً، وآخرون لفظوا أنفاسهم لأنهم لم يجدوا دواء يخفف آلامهم أو طبيباً يمد لهم يد العون، ففي غزة لا يموت الأطفال فقط بالقصف، بل يموتون أيضاً بالإهمال والجوع والخذلان.

ويأتي التهجير والنزوح المتكرر رابعة الأسافي، فالاحتلال «الإسرائيلي» لا يتوقف عن إصدار الأوامر بالإخلاء والنزوح ولزوم الانتقال بدعوى أنها آمنة، لكنها غالباً ما تتعرض للقصف ليبدو الأمان عند الاحتلال ليس إلا سراباً يخدر به الضحايا قبل أن يبتلعهم الموت ولتتبعثر في خضمه طفولة الأطفال بين خيام مهترئة وطرقات موحلة يحملون على ظهورهم حقائب صغيرة لا تحمل إلا ذكريات منازلهم التي سويت بالأرض.

إن ما يعانونه أطفال غزة شهادة وفاة للضمير الإنساني الذي سمح أن ينام هؤلاء الأطفال على أصوات الانفجارات، ويصحون على أنين الأحياء تحت الأنقاض ليصاب أكثر من 80% منهم باضطرابات نفسية؛ من كوابيس متكررة، وصدمات، وفقدان الإحساس بالأمان، دون أن يتحرك لهذا الضمير ساكن.

موت الحضارة

لعل ما نطقت به الملكة رانيا في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» عندما قالت: «لقد رأينا أمهات فلسطينيات اضطررن إلى كتابة أسماء أولادهن على أيديهم؛ لأن فرص استهدافهم بالقصف وتحول أجسادهم إلى رفات باتت عالية جداً»، قد جسَّد بعضاً من واقع الأطفال في قطاع غزة؛ إذ أصبح كل طفل في غزة مشروع شهيد أو جنازة مؤجلة بعد أن قتل أكثر من 20 ألف طفل وجرح نحو 30 ألفاً آخرين خلال عامين فقط.

وإذا كانت هذه حال أطفال غزة مع الحق في الحياة والأمان، فإنه يصبح ترفاً أن نتطرق إلى بقية حقوقهم التي صارت ضربًا من الخيال في واقع الحصار والقصف المستمر؛ إذ الحديث عن التعليم –مثلًا– يبدو رفاهية بعد أن تحولت المدارس إلى ملاجئ أو ركام، واضطر الأطفال إلى التعلم تحت خيام أو بين أنقاض البيوت بلا كتب ولا أدوات ولا بيئة آمنة.

كما أصبح الحق في اللعب والرفاهية حلماً بعيد المنال، فالطفل الغزي الذي يفترض أن يلعب في الحديقة أو على الشاطئ، يلهو اليوم بين الأنقاض يركض من غارة إلى أخرى ويقيس أيامه بعدد من فقد من أصدقائه وأقاربه.

لكن، وقد انتهت الحرب وتم الإعلان عن وقف إطلاق النار، لا يعني ذلك أن الألم قد توقف، أو أن الجراح قد التأمت، فهناك ما هو أعمق من الركام والدمار؛ وهو إعادة بناء النفوس الصغيرة التي أنهكها الخوف والفقد والجوع.

إن ما ينتظر أطفال غزة ليس فقط إعمار البيوت والمدارس، بل إعادة إعمار الإنسان ذاته وإحياء الإيمان بالحياة والعدل في قلوبٍ لم تعرف من العالم سوى وجهه القاسي، فهل سيستيقظ الضمير الإنساني يوماً ليمنح أطفال غزة ما يستحقونه من طفولة وأمان وحق في أن يحلموا مثل كل أطفال الأرض؟


اقرأ أيضاً:

هاني وسارة.. طفولة بُترت أطرافها وأحلامها!

أطفال غزة.. كيف يعبرون «التروما»؟

الحرب الصهيونية وانعكاساتها النفسية على أطفال غزة

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة