23 فبراير 2025

|

أطفال غزة.. كيف يعبرون «التروما»؟

شيماء أحمد

29 يناير 2025

5835

وضعت الحرب على غزة أوزارها أخيرًا، وقدّر للمستضعفين بأن يعودوا لدورهم المحطّمة، طاوين جراحهم ببسمة أمل علّها تنبت حياة جديدة لقطاع تعرّض عبر أشهر متواصلة لأقسى حرب إبادة دموية.

ذكريات مؤلمة مروّعة تصاحب كل خطوة للعائدين من جنوب القطاع لشماله؛ وهم من عاشوا مشاهد تفجير البيوت وحرق المخيمات في كل ليلة وضحاها، لكن الأطفال ببراءتهم وهشاشتهم هم دومًا من يدفعون الفاتورة الأكبر للحرب!

خلّف العدوان على غزة أكثر من 50 ألف شهيدٍ، و10 آلاف مفقود، بينهم 18 ألف طفل، وعشرات الآلاف من المصابين بعاهات مستديمة، ولفداحة تلك الأرقام تعالت صيحات منظمات حقوق الإنسان، وحذّرت من التداعيات الجسيمة لتلك الحرب على جيل بكامله من أبناء القطاع أصبح مصاباً بنوبات الفزع وأعراض «تروما الحرب» بعد أن أصبحت غزّة أخطر مكان على حياة الأطفال في العالم.

عانى أطفال غزة مجاعة كاملة انعكست على صحتهم الجسدية والنفسية، وقد فرضت «إسرائيل» حصارًا شاملًا على القطاع؛ ولا تزال ذاكرة الأطفال تحمل صور آباء وإخوة ممن استشهدوا لمجرد محاولتهم الحصول على كيس طحين.

يعاني أطفال غزة من غياب الشعور بالأمان، فلأكثر من عام تهدم طائرات المحتل كل ما يصادفها من أبنية وكأنها تمحيه من الوجود، تلقي القنابل فوق الآمنين بلا هوادة، وقد اعترفت منظمة «يونيسف» بأن 1.9 مليون نسمة، نصفهم أطفال، من إجمالي نحو مليونين يشكلون سكان القطاع؛ قد اضطروا للهجرة داخلياً لوجهات غير آمنة، وبالتالي فالذي ينجو من الموت والإصابة لم ينج من مصير التهجير لمخيمات مهترئة في لهيب الصيف بالصحراء والبرد الزمهرير والأمطار الشتوية.

كيف ينسى الأطفال صدمتهم داخل المستشفيات الباقية في القطاع؛ ومعظمهم حين أصيب ظل يتألم وينزف على أرض المستشفى المفتقدة لكل شيء تقريباً؟! كيف ينسى الصغار أن كثيراً منهم خرج من تلك المشافي بلا أطراف؟! وكيف ينسون الإصابات الصعبة لهم ولذويهم جرّاء القصف «الإسرائيلي»؟!

ما بعد الصدمة

تبين من الدراسات التي أجرتها منظمة «أطفال الحرب» البريطانية، بالتعاون مع مركز التدريب المجتمعي والأزمات الفلسطيني، حجم الدمار النفسي للأطفال، وخاصة من فقدوا ذويهم، أو أصيبوا بشدة، ومعظمهم يعاني من أعراض «التروما» وما يسمى بـ«صدمة الحرب»، وما تعنيه من أعراض قلق وحزن، بعضهم يتمنى الموت في أسرع وقت، وبعضهم يتعرض للهلع بسماع صوت طائرة العدو الزنانة في السماء، معظمهم يعاني من اضطرابات النوم، وهناك أعراض عدوانية عند كثيرين، وكثير منهم يحلم بالحياة وفقط، وبعضهم كان أكثر تمسكًا بالأمل ربما لأنه وجد الدعم الكافي من حوله برغم صعوبة الأجواء.

نتائج «المركز المصري للدراسات» تؤكد أنه بالنسبة لمن أصيبوا بـ«كرب ما بعد الصدمة» (PTSD) تتضح معالم صعوبة الإدراك والذاكرة، واليقظة المفرطة، والخدر العاطفي، والألم الجسدي أحياناً بلا سبب، ونوبات البكاء، واليأس، والفصام، وهي أعراض تعرض لها 53% من أطفال غزة خلال الحرب، وخلصت الدراسة إلى احتياج الطفل لفريق متكامل يشمل الجوانب الطبية والعلاج الطبيعي التأهيلي والنفسي والاجتماعي، كي يمكنه العودة للاندماج في الحياة.

يقترب د. عرفات أبو مشايخ، رئيس قسم الصحة النفسية في مستشفى «شهداء الأقصى»، من تفاصيل التأهيل النفسي للأطفال الذين أصيبوا بعاهات مستديمة تصل لحد بتر الأطراف؛ ما يعني حرمانهم من الحياة الطبيعية واللعب وممارسة كل الأنشطة التي يمارسها أقرانهم، وعادة ما يكون الطفل في حالة إنكار لما حدث له، فيما يعتقد كثير منهم خاصة الأقل من 10 سنوات أن أطرافهم ستنمو مجددًا بعد العلاج، وهذا ما يصعّب عمل الاختصاصي النفسي، الذي يكون بدوره متألما بشدة بمشاعر الأب والأم في داخله، ويصبح دوره هو إخراج الطفل من حالة الإنكار لحالة التقبل أولًا، ثم تكوين حلقات من هؤلاء الأطفال لممارسة أنشطة سوياً.

بسمة أمل

توصلت منظمة «يونيسف» إلى حاجة كل أطفال غزة لدعم صحتهم النفسية بعد الحرب حتى لا تتآكل قدرتهم على الصمود في الحياة؛ وقد شاهد مندوبوها أطفالاً يجوبون الشوارع منفردين بلا أهل، في ظروف قاسية من البرد والجوع والوحدة، ووجدت كارين بيتي من منظمة «إنقاذ الطفولة» أن الوضع المزري دفع الأطفال دون سن المراهقة للعمل كمعيلين لأسرهم وعوائلهم وتحمل أدوار غياب الأبوين، بعد أن تيتّم ما لا يقل عن 17 ألف طفل من غزة.

وبرغم قتامة المشهد، فقد نشطت كثيرٌ من المبادرات المحلية والعربية والغربية لمساعدة الأطفال في الخروج من شرنقة الحزن، بعضهم اتجه للعلاج بالفن مثل منظمة «Rays of Remedy» النفسية المصرية، التي حملت اللوحات والألوان المبهجة للأطفال لرسم عالم بديل وتشجيعهم على التعبير عن أنفسهم.

يقوم علاج اضطراب ما بعد الصدمة على استدعاء الذكريات بشكل يسمح باستيعابها، فهو أمرٌ جيد لصحة الطفل العقلية، ويمكن ربط ما جرى بخصوص أحداث غزة بمنظومة القيم الإيمانية، هذه التقنية المسماة بـ«إضفاء المعنى على المعاناة» والمرتبطة بفعل المقاومة والغاية والقيم الدينية التي تمنح المشهد شمولية للحياة ومعناها وجزاء المؤمنين، تمهد للمرحلة اللاحقة حيث نقوم بصنع حاضر يحمل ذكريات أجمل وأكثر إيجابية بإشراك الطفل في العديد من الأنشطة التي تشعره بذاته وأهميته وتثير فيه روح المرح أيضاً والمشاركة مع أصحابه.

بعض الأطفال قد يصعب عليه التأقلم سريعاً مع حاضره؛ فكثير منهم عملياً يحمل ذاكرة محملة بوحشية الحرب وأثرها على أقربائه، لا ننسى أنهم هم أنفسهم تم انتشالهم غالباً من أنقاض منازلهم بعد القصف، وفقدوا كثيراً من أحبائهم، لهذا يحتاج الأمر لتدرج وصبر في جذب الطفل للمشاركة والخروج من العزلة وتنمية مواهبه.

في هذا الصدد، برزت مبادرات مهمة، منها المبادرة المصرية «GEMS»، وتقوم على فكرة استعادة الأمل وبناء الصمود النفسي ومقاومة أعراض صدمة الحرب من خلال أنشطة تشاركية؛ من ذلك مثلاً الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال وتقديم دعم نفسي وجلسات حكي وإبداع، وهناك مبادرات رائدة منها «HEAL Palestine» التي خرجت من أمريكا وتقوم على مساندة بعض الأطفال ذوي الحالات الحرجة في رحلة العلاج في أمريكا، ولكنها تركز أيضاً على علاجهم نفسياً بأنشطة مبتكرة.

تتبنى مبادرات فلسطينية وعربية عديدة توفير تعليم بديل لهؤلاء الأطفال عوضًا عن مدارسهم التي دمرتها الحرب، ومن ذلك «PCRF»؛ وهو صندوق أطفال فلسطين، كما تدعم إلى جانب المنظمات الدولية كـ«أطباء بلا حدود» مساعدة الأطفال لتجاوز مشاعر الألم والصدمة، ومن المهم أن تتنامى أدوار تلك المنظمات جميعاً في مرحلة ما بعد الحرب.

يبقى الأمل في نفوس أطفال غزة الذين ضربوا مثلًا في المقاومة رغم الألم، لا تمنعهم السماء الملوّنة بشظايا الحرب من الضحك والرقص فرحاً بهدنة الحرب، يثبون وسط الركام على الدبكة الفلسطينية منشدين «جنّة يا وطننا»، يحملون لبنات جديدة لدورهم التي هدمها الاحتلال وبعض البذور لزرع الأشجار، يحلمون بعلم بلادهم يرفرف فوق مدرسة، ويتساءلون: هل سنعيش لنحقق أحلامنا؟!


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة