شبهات حول فلسطين (11)..
لماذا لم يجعل المسلمون القدس عاصمة؟

لا تكاد تقرأ لأحد كتَّاب الرواية التوراتية والصهيونية اليوم التي تهاجم الوجود الإسلامي في القدس إلا وتجدها تطرح قضية تعتبرها رابحة في وجه الرواية الإسلامية ودليلاً على عدم اهتمام المسلمين بالقدس بعكس اليهود؛ حيث تدعي هذه الرواية أن المسلمين لم يكونوا مهتمين بالقدس بدليل أنهم لم يجعلوها عاصمة لأي دولة إسلامية قامت في التاريخ، حتى بعد الحروب الصليبية، وهذا يدل على عدم اهتمام المسلمين بالقدس، بعكس اليهود الذين جعلوا القدس عاصمة لهم بمجرد الوصول إليها ومنذ إقامة المملكة اليهودية الأولى على يد الملك داود (أي النبي داود عليه الصلاة والسلام)، وخلال فترة حكم مملكة الحشمونائيم كذلك في عصر النفوذ الهيلينيستي اليوناني كذلك.
ويدعي أنصار هذه الرواية –وقد بدأنا نسمعها للأسف من بعض بني جلدتنا ومن يتكلمون بلساننا– أن هذا يدل دلالة قطعية على أن القدس كانت تعني لليهود أكثر مما تعني للمسلمين، ولو كان المسلمون مهتمين بها لجعلوها عاصمتهم، بل حتى إن صلاح الدين الأيوبي نفسه الذي اشتهر بين المسلمين بفتحه بيت المقدس وتحرير المدينة المقدسة والساحل الشامي من الاحتلال الفرنجي الصليبي لم يفكر في تحويل عاصمته من دمشق إلى القدس، وبقي بعد التحرير يقيم في كل من دمشق والقاهرة كعادته قبل تحرير القدس، ولو كان يرى في القدس أهمية دينية كبرى كما يدعي المسلمون لكان قد أقام فيها ونقل عاصمته إليها حسب زعم أتباع الرواية التوراتية.
والواقع أن هذه الشبهة تعتبر من أبسط الشبهات التي يطرحها الطرف الآخر ضد المسلمين وتاريخهم العظيم في المدينة المقدسة، والسبب في ذلك أن جعل أي مدينة عاصمة لم تكن يوماً معياراً لقدسية تلك المدينة عند المسلمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جعل المدينة المنورة عاصمته لم يفعل ذلك بسبب قدسيتها، بل نشأت قدسيتها بعد سكنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيها وإقامة مسجده الشريف في رحابها.
كما أنه عندما فتح مكة المكرمة وهي أقدس البقاع ابتداءً في نظر الإسلام لم يفكر في نقل عاصمته إليها، وذلك لأن فكرة العاصمة دائماً ما كانت ترتبط بالموقع السياسي لا الموقع الديني.
وحرص المسلمون فعلياً في فترة لاحقة من تاريخهم على الحفاظ على قدسية المدن المقدسة عبر إبعادها عن الصراعات السياسية، وذلك بعد تجارب مريرة مرت بها هذه المدن، فكلنا يعلم ما حدث في مكة المكرمة عندما خرج عبدالله بن الزبير رضي الله عنه عن المألوف والمتعارف عليه بين المسلمين وقرر اتخاذها عاصمة له معتصماً بحرمتها في وجه بني أمية؛ ما أدى إلى حصارها وضربها بالمنجنيق وانتهاك حرمتها، ولذلك فلم يكن المسلمون يفكرون في اتخاذ المدن المقدسة عواصم لهم.
حتى إن الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك الذي كان يحب القدس حباً شديداً فكر في نقل عاصمته إليها من دمشق، فمنعه مستشاروه وعلى رأسهم عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، وذلك خوفاً على مدينة القدس من أن تنتهك مكانتها في حالة أي صراعٍ سياسي مستقبلي.
ولذلك، فقد كان من الطبيعي ألا يتخذها صلاح الدين عاصمة بعد تحريرها، ولا أن يتخذها المماليك عاصمة لهم كذلك بالرغم من اهتمامهم الشديد بها عمرانياً وعلمياً ودينياً.
فالمسألة لا تتعلق بأي شكل بمستوى الاهتمام بهذه المدينة أو تلك، وإلا لكان من الواجب على المسلمين عبر التاريخ اتخاذ مكة المكرمة عاصمة وهي التي لا يوجد من يناقش في مكانتها في الإسلام مطلقاً.