24 فبراير 2025

|

الدور الأخلاقي للدولة في الفكر الإسلامي

د. مي سمير

24 فبراير 2025

127

إن المتأمل للفكر السياسي الإسلامي عبر العصور يجده قد استمسك منذ نشأته الأولى بترسيخ الارتباط الوثيق فيما بين الأخلاق والسياسة، واعتبر ممارسة الحاكم الإسلامي والدولة الإسلامية للدور الأخلاقي بمثابة واجب رئيس من واجبات الحكم في الإسلام، بل واشترط كثير من مفكري الإسلام في الحاكم الفاضل عدداً من الشروط الأخلاقية الجوهرية بالإضافة إلى السمات الجسدية والفكرية، وهو ما جعل الأخلاق مبحثاً رئيساً من مباحث علم السياسة الإسلامي وركناً أساسياً من أركان الدولة الإسلامية، مسترشدة بدولة المدينة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم وسار على هديها الخلفاء الراشدون من بعده؛ ما جعل عدداً من القيم الأخلاقية في القلب من الفكر السياسي الإسلامي ومنها العدل والمساواة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعادة والفضيلة وغيرها.

لكن تلك الرؤية ذات النزعة الأخلاقية الواضحة يجدر إدراكها في محيط أوسع من السياق التاريخي الذي تمثل في النظرية السياسية التقليدية التي امتدت منذ اليونان والرومان وحتى العصور المسيحية الوسطى، التي رأت في الأخلاق والسياسة وجهين لعملة واحدة لا يوجد ولا يجب أن يوجد انفصال بينها. 

فقد سعى الفكر السياسي في تأصيله التنظيري للحكم وإدارة الدولة إلى المثالية عبر التركيز على ما يجب أن يكون لا ما هو كائن، وقد تجلى ذلك في فضائل الجمهورية لدى أفلاطون، وفي نصائح الأخلاق الأرسطية، والمدارس الأخلاقية الفلسفية كالرواقية وغيرهم.

ومن ناحية ثانية، فإن الفكر السياسي الإسلامي الذي تفرع إلى 3 فروع رئيسة، هي: الفقه السياسي، والفلسفة السياسية، وأدب نصيحة الحاكم، قد أسهم في ترسيخ النزعة الأخلاقية في التفكير السياسي، وهو ما سنفصل فيه عبر تناول كل فرع على حدة للوقوف على مكانة الأخلاق في الدولة الإسلامية انطلاقاً من انتماء المفكر لأحد تلك الفروع والأسباب التي أدت لحيازة الأخلاق تلك المكانة في الفكر السياسي الإسلامي باختلاف تفرعاته الفكرية.

1- الأخلاق في الفقه السياسي الإسلامي:

اختص الفقهاء في الفكر السياسي الإسلامي بتبيان الأحكام الشرعية لسياسة شؤون الدولة في سائر النواحي والمسائل، وتقديم النُصح بشأن التدبير والفعل السياسي الأمثل للحاكم المسلم تماشياً مع تعاليم الوحي، ممثلة في القرآن والسُّنة، والتجربة التاريخية للرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في الحكم، بالإضافة إلى بعض خبرات الحكم المقتبسة من الفرس والروم وغيرهم.

وانطلاقاً من تلك الخلفية الشرعية للفقه السياسي الإسلامي فقد كان على الدولة الالتزام بالمعايير الأخلاقية التي جاءت بها رسالة الإسلام لتهذيب البشر وهدايتهم إلى صلاح أحوالهم في الدنيا والآخرة، وهي بذلك قد رأت تطابقاً بين الدين والأخلاق باعتبارهما أمراً واحداً يمثل المرشد المرجعي للدولة الإسلامية، التي يجب أن تدبر شؤون المحكومين تبعاً لأوامر الشرع باعتباره أمراً ملزماً.

2- الأخلاق في الفلسفة السياسية الإسلامية:

آمنت الفلسفة السياسية الإسلامية بالأخلاق كغاية للإنسان الذي كرمه الله بأن جعله كما يقول ابن مسكويه أشرف موجودات العالم، ولذا فإن علم الأخلاق باعتباره العلم الذي يسعى لتحقيق كمال أشرف المخلوقات أهم وأشرف العلوم التي يجب الاعتناء بها. 

وقد انعكس ذلك في تقسيم العلوم لدى فلاسفة الإسلام، إذ رأى أبو نصر الفارابي، في كتابه «إحصاء العلوم»، بأن علم الأخلاق والعلم المدني فرعان من فروع الحكمة العملية، فالأخلاق التي تسعى إلى تهذيب سلوك الأفراد في المجال الخاص ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة التي تستهدف ترقية الأفراد والمجتمعات عبر الملك أو الحكم، لتصبح الأخلاق غاية فلسفية كُبرى لعلم السياسة لدى فلاسفة الإسلام.

وبينما سعى الفقه الإسلامي لتطبيق الشريعة باعتبارها النظام الإلهي الأمثل لإدارة شؤون البشر بما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، فقد استهدفت الفلسفة الإسلامية الأخلاق كغاية في ذاتها، إذ اعتبروا السعي إلى الكمال الأخلاقي السبيل الوحيد لتحقيق السعادة، والسعادة لدى أغلب فلاسفة الإسلام السعادة الروحانية وليست المرتبطة بالمادة أو البدن أو الملذات الحسية، والوصول إلى تلك السعادة يتطلب فضاءً عاماً من الحكم السياسي الفاضل الذي يتحلى بالأخلاق.

3- الأخلاق في أدب نصيحة الحاكم:

أما الكتابات الإسلامية التي اندرجت ضمن إطار أدب النصيحة، فقد كانت أكثر الكتابات السياسية الإسلامية اهتماماً بالأخلاق، وبينما ركز الفقه على شرعنة السياسة وفقاً لمبدأ الحلال والحرام والجائز والمباح والمستحب وغيرها من المصطلحات الفقهية، فقد تجاوز أدب النصيحة ذلك إلى السعي لتحقيق كمالات الراعي والرعية على المستوى الأخلاقي العام، بغرض تحسين أدائه في الحُكم وتحليه بالفضائل الأخلاقية، آخذين بخلاصة وصفوة الحكمة لدى الحكام والأمم السابقة وتجاربهم في الاقتراب من المسألة الأخلاقية وانعكاسات ذلك على طرائقهم في الحكم وصمود دولهم ونجاحها.

وانطلاقاً من تلك الرؤى المتنوعة لفروع الفكر السياسي الإسلامي، نرى بجلاء محورية الأخلاق في الحكم الإسلامي واتفاق مفكري الإسلام باختلاف مرجعياتهم التي استندوا إليها على أهمية استمساك الدولة الإسلامية والحاكم الإسلامي بالأخلاق كوسيلة وغاية للنظام السياسي الإسلامي، مع اختلاف التأصيل النظري لتلك الأخلاق. 

إذ استند الفقهاء إلى القرآن والسُّنة والشريعة الإسلامية السمحاء، بينما انطلق الفلاسفة من رؤية عقلانية فلسفية لفكرة الفضيلة وجدواها للفرد والمجتمع فيما يتعلق بتحقيق السعادة وبلوغ الكمال الإنساني، وأخيراً تتبع أدباء نصيحة الحاكم تجارب الأمم السابقة وخلاصة خبراتها في مجال الممارسة السياسية الأخلاقية باعتبار تلك التجارب دليلاً عملياً على جدوى الحكم الأخلاقي.

الأخلاق في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر

وقد كانت النظرية السياسية على موعد مع تغير جوهري فيما يتعلق بمسألة الارتباط بين الأخلاق والسياسة في بواكير العصر الحديث؛ إذ ظهر كتاب «الأمير» لنيقولو مكيافيللي، الذي تمكن من التأسيس للانفصال بين الأخلاق والسياسة، معلناً عن عصر جديد يسعى إلى  الوصول إلى الحقيقة وليس تخيلها، ومؤكداً أن هناك تمايزاً جوهرياً بين حياتنا كما نحياها، وما ينبغي أن تكون، ولا يجب علينا أن نترك ما نقوم به من أفعال في سبيل تحقق ما ينبغي تحقيقه على أتم وجه، وبذلك بدأت الأخلاق في الانتقال إلى العلوم النظرية وتباعدت عنها السياسة والحكم، لتصبح السياسة فن الممكن والكائن وظهرت البراغماتية التي تسعى إلى المصلحة لا الفضيلة والقوة لا السعادة.

ولكن أين وقف الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث من تلك التطورات البراغماتية المنفصلة عن القيمة؟

لقد استمر التفكير السياسي الإسلامي في التأكيد على الأخلاق كجزء لا يتجزأ من السياسة، وقد كان ذلك راجعاً بشكل رئيس إلى سيادة تيار السياسة الشرعية وغلبته واستمراره مع انزواء الفرعين الآخرين من فروع الفكر السياسي الإسلامي، إذ ظل القرآن والسُّنة والتجارب التاريخية الإسلامية عبر العصور وخاصة صدر الإسلام والخلافة الراشدة المرجعيات الرئيسة لأي اجتهادات إسلامية حديثة أو معاصرة، بينما انزوى الصوت الأخلاقي في الفكر السياسي الغربي لصالح ترسيخ تيار واقعي علماني متجرد من القيم.

وقد أدت محاولات سيطرة النظام السياسي في شكله العلماني الغربي على الدول العربية والإسلامية فيما بعد الاستقلال إلى اتساع الهوة فيما بين الفكر السياسي الإسلامي الأخلاقي والواقع الفعلي للنظم السياسية المعاصرة، مما عقّد مهمة الحركات الإسلامية التي سعت إلى تنزيل الشريعة الإسلامية على الواقع. 

ولعل أبرز ما يلخص تلك العلاقة بين الفكر الإسلامي ورؤيته الأخلاقية في العصر الحديث وما آل إليه الواقع السياسي من تدنٍّ أخلاقي وهيمنة غربية عسكرية غاشمة ما عبر به الإمام محمد عبده بعد فشل الثورة العرابية: أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معني السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذُكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم، أو يجن أو يعقل في السياسة، ومِن ساس ويسوس وسائس ومسوس!


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة