المثالية وجلد الذات.. كيف تتحرر من وهْم الكمال؟
لا ريب أن في الشباب
المسلم طاقات واعدة ونوايا صادقة، لكن ينتشر بينهم طرفان متناقضان في المظهر،
متشابهان في الأثر المدمّر لتلك الطاقات، وهما نزعة المثالية وجلد الذات، فكلاهما،
على خلاف ما يوحي ظاهره، يبددان العمر ولا يثمران عملًا ولا يورثان ارتقاءً، فالمثاليّ
كثيرًا ما يكون أسيرًا للوهم، بينما صاحب جلد الذات يبالغ في معاقبة نفسه حتى
يعجزها ويُسقط عنها القدرة على النهوض، وما بين الطرفين يضيع جوهر الوسطية التي هي
سرّ النجاح والعمل الرشيد وراحة السائر إلى الله.
أولًا: نزعة المثالية.. حين يصبح الحلم قيدًا:
من أعجب العجب
أن ترى المثاليّ أكثر الناس امتلاءً بالتنظير، وأشدّهم خواءً في التنفيذ! ذلك أنه
يحمل شعارًا يستنزفه: «إمّا الأفضل على الإطلاق، أو لا شيء على الإطلاق»! فلا
يفرّق بين مراتب الإتقان، ولا يقدّر اختلاف المقامات، بل يريد البراعة الكاملة في
كل عمل، أو يتركه كليًّا، وهكذا تهدر الساعات والأيام بحجة أن المتوفّر من الطاقة
أو الوقت أو الظروف «لا يرتقي لما أريد»، مع أن المطلوب في أكثر الأحيان هو البدء
بما في اليد لا بما في الخيال.
يقف المثاليّ
خلف جدار سميك بين واقعه وصورته المتخيّلة عن ذاته؛ يرى في كل فرصة عقبة، وفي كل
تحدٍّ خطرًا، وفي كل مشروع مجهولًا يحتاج ضمانات مطلقة، فإن احتوى العمل نسبة
مخاطرة أو تجربة أو عدم يقين، آثر الجمود على الحركة، والانتظار على الإقدام، ولأنه
يعلم -في قرارة نفسه- أن هذا الانتظار عبث، يلجأ إلى التسويف؛ فهو يؤمّن له راحة
وهمية، ويفتح بابًا خادعًا للهروب من المواجهة، يومٌ بعد يوم، يتضخم التأجيل حتى
يصير سنوات، ويضيع العمر بين أمانٍ لا تنتهي وحسرة لا تتوقف.
ومما يزيد الأمر
خطورة أنّ المثالية تُخدّر صاحبها عن الشعور الحقيقي بالذنب؛ إذ تمنحه ذنبًا
بديلًا يتسع له صدره؛ ذنب التأجيل بدل ذنب التقصير الحقيقي، وهكذا يعيش في دائرة
مفرغة من جلد وهميّ، يُعفيه من الاعتراف بالكسل أو الخوف أو التردّد الذي يعيش فيه،
والحق أن كثيرًا من الخوف ليس خوفًا من الفشل، وإنما خوف من النجاح وما يحمله من
ثمن؛ من جهد وصبر وتجربة وخطأ وتكرار، فإذا غابت أعذار الظروف، ظهرت العقبة
الحقيقية؛ من كسل النفس، وتقلب مزاجها، ودلالها، وهذه عقبة يفرّ منها كثيرون، وإن
كان ثمن الفرار دوام الهمّ والكدر.
والحقيقة
البدهية التي تغيب عن المِثاليِّين أنّ الخطأ جزء من ماهية الإنسان؛ «كل ابن آدم
خطاء، وخير الخطّائين التوّابون» (رواه الترمذي).
فإذا كان الخطأ
واردًا في ممارسة الدين، فكيف لا يكون واردًا في معايشة الدنيا؟! ولولا الأخطاء ما
تعلم الإنسان مشيًا ولا كلامًا ولا كتابة، ولا أتقن مهارة من مهاراته.
إنّ الحياة في
أصلها سلسلة مغامرات متدرجة؛ تُقدِم على قرار دون صورة مكتملة، وتجرب عملًا دون
ضمانات، وتتعلم من يدك كما تتعلم مِن مَن يفوقك خبرة، فلا أحد يتقن الخطابة في
يوم، ولا تطبخ الفتاة عملًا بارعًا من أول محاولة، ولا يتعلم أحد سباحة من كتب، من
أراد الإتقان حقًا، فليعمل، ويخطئ، ويقوم، ويستفيد، ويتحمل العواقب، ويقبل
النصيحة، ولا يأنف من النقد.
ثانيًا: جلد الذات.. حين يتحوّل اللوم إلى عداوة:
الحزن والندم وقود
الإصلاح؛ لولا أن الخطأ أحزن صاحبه ما التفت لعلاجه، لكن هذا الوقود نفسه إذا حُبس
ولم يُصرف في عمل صالح انقلب سمًّا داخليًا يُنتج جلد الذات؛ ذلك التعنيف المستمر
الذي لا يصحبه تقويم ولا تربية، فاستمرار اللوم بلا حركة يفرز مشاعر مقت واحتقار
للذات، ثم يتحول إلى عدوان عليها، وقد يتفاقم إلى سخط على الخلقة والخَلْق،
والعياذ بالله، وكل هذا يناقض الشرع والعقل، ولا يمكن أن يكون سبيلًا للعبادة أو
وسيلة للتزكية.
أما الحزم
الرشيد فهو محاسبة بنية الإصلاح، ولومٌ يتبعه عمل، وتفكرٌ في الجذور بغية تقويم
السلوك، لا شتم النفس وإهانتها، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا حين
قال: «لا يقولنّ أحدكم خبُثت نفسي، ولكن ليقل لقِسَت نفسي» (رواه البخاري)؛ ومعنى
لَقِسَت: سَاءَ خُلُقُهَا أو مَالَتْ بصاحبها للدَّعَةِ (الراحة والخمول والتبطّل).
ومن عجيب الأمر
أن المثالية المفرطة كثيرًا ما تتغذى على جلد الذات؛ فحين يعجز صاحبها عن تحقيق
صورة الوهم التي رسمها، يبدأ في احتقار نفسه، ثم يتخذ ذلك الاحتقار قناعًا يبرر به
كسله وهروبه، وهكذا يصبح جلد الذات وسادة يتكئ عليها ليعفي نفسه من العمل: فهو ليس
كسولًا ولا مزاجيًّا، وإنما مغلوب على أمره، ضعيف، أو منهك، وما إلى ذلك من حجج
وهمية.
والحق أن هذه
كلها حروب داخلية يشنّها صاحبها، فيقودها ويقع ضحيتها في آنٍ واحد، ورغم أن لها
جذورًا نفسية قد تكون تربيةً قاسية أو تجارب سابقة مؤلمة، إلا أن اتخاذ الماضي
ذريعة لهدر بقية العمر إنما هو ظلم آخر يوقعه المرء بنفسه على نفسه، امتدادًا لما
أوقعه الآخرون من قبل! فمتى كانت السيئة علاج السيئة؟!
إن نفسك مطيّتك
في هذه الرحلة، فإن عاديتها، أو أرهقتها، أو احتقرتها، أو آذيتها، فكيف يبلغ
الراكب غايته وقد أهلك راحلته؟!
ثالثاً: الوسطية.. ميزان السائرين إلى الله:
إن تقدير
الإنسان لذاته ليس تَرَفًا نفسيًّا ولا شعارًا نظريًّا، بل هو واجب إنزال النفس
المنزلة التي أنزلها الله، وتعامل معها بوعي يليق بكرامتها التي خُلقت لها، وذلك
باحترام ما أكرمها الله به من قصد وغاية، ثم تحمّل مسؤوليتها بلا شماعات يُعلَّق
عليها التقصير دون علاج حقيقي له، فمَن عرف قدر نفسه، وأحسن التحاور معها للتوصل
إلى حلّ مُرتضى، وأخذ بالمتاح حين يتاح، سلِم من طرفَي المثالية الموهومة وجلد
الذات المدمّر، وسار بخطى ثابتة في طريق الرشد والعمل والعبودية.
ويصدق في هذا
المقام مقولة: خير الأمور أوسطها حقًا؛ ففي الوسطية تنضج النفس، ويتحقق الإنجاز،
وتُستثمر الأخطاء، ويعلو المرء درجات دون أن يحترق أو ينكسر، وليس المطلوب من
المؤمن مثالية تستنزف الجهد ولا جَلَدًا يقتل النفس، بل وسطية رشيدة؛ عملٌ متدرّج،
ونِيّة خالصة، وحزمٌ بلا قسوة، وتربية بلا عدوان، وإتقانٌ بلا توتر، وتوبة بلا
يأس.
وما الطريق إلى
الله إلا سفر طويل، لا يبلغ نهايته إلا من عرف قيمة نفسه، فرفق بها، وساقها
بالحكمة، وأحسن معاملتها قبل أن يُحسن مطالبتها.