23 فبراير 2025

|

المجتمع الإسلامي والإنسانية العذراء!

مالك بن نبي

10 فبراير 2025

5566

إن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن هي مشكلة الحضارة وكيفية إيجاد الحلول الواقعية لها، وإزالة التناقض بين النجاح المادي والتخلف المعنوي، أعني تخلف القيم أو إهمالها، لقد شعرت منذ فترة طويلة وعلى وجه التحديد منذ وصولي إلى أوروبا لتلقي العلم عام 1930 أن المجتمعات المعاصرة تواجه مشكلات بالغة التعقيد ومتعددة الأنواع.
وإذا كان من المفروض على رجل السياسة أن يتناول هذه المشكلات في تنوعها وتعددها، ويجهد في إيجاد الحلول الملائمة لها، وإذا كان من حق رجل الفكر أيضًا أن يطرق هذا الطريق في بلاد متقدمة، فأولى برجل السياسة والفكر في البلاد المتأخرة أن يوجه اهتمامًا متزايدًا لدراسة هذه المشكلات في مجتمعه وأن يجتهد في إيجاد الحلول الملائمة لها.

ومن الأخطاء والأخطار التي واجهت بعض الدول الإسلامية أنها تناولت مشكلاتها ووضعت لها حلولها وفقًا للأنماط والنماذج التي واجهت بها الدول المتقدمة مشكلاتها، وإذا كان هذا الأمر له خطورته من الناحية السياسية، أعني من الناحية التطبيقية، فإن خطورته أشد من الناحية النظرية، لاسيما أن الناحية النظرية هي التي توحي بالحلول التي تطبق، وتكون النتيجة أن تبقى حياتنا السياسية أسيرة مجهودات فكرية غير ملائمة لواقعنا، لأنها أخلَّت بمبدأ أساسي من مبادئ فلسفة التاريخ.

يمكننا أن نقرب هذه الحقيقة إلى ذهن القارئ إذا ما طبقناها على مستوى الأفراد.. من المسلم به أن ما يمكن أن يصنعه أو يتحمله الرجل المكتمل من مجهودات لا يمكن أن يصنعه أو يتحمله طفل صغير أو شيخ هرم، أيضًا المجتمعات لها أعمارها، فهذا المجتمع في عنفوان شبابه، يستطيع أن يتحمل وينتج ما تنتجه المجتمعات المزدهرة، وهذا مجتمع ناشئ لا تستطيع قواه أن تواجه نفس الأعباء التي يتحملها المجتمع الأول، وهذا مجتمع ثالث هرم لا يستطيع لنفس الأسباب أن يقوم بالمهمات الكبرى مادام يستولي عليه هرمه.

وإذا أرجعنا هذه الاستعارات إلى مصطلح علم الاجتماع فنقول بغير تردد: إن المجتمع الإسلامي اليوم يتكون من عناصر بشرية مازالت تشكل ما نسميه بـ «الإنسانية العذراء»، أعني الإنسانية التي لم تدخل بعد في دورة حضارة، ولهذا السبب تحتفظ بكل رصيدها التاريخي الأمر الذي يملأها بالتفاؤل نحوها.

كما يتكون المجتمع الإسلامي أيضًا من عناصر بشرية قامت بدور حضاري كبير وأنارت الإنسانية طيلة قرون ازدهارها، وأتى على هذه المجتمعات ما يأتي على كل المجتمعات وكل الحضارات، فاستولى عليها الهرم، وربما تجد نفسها في هذه الحالة عاجزة عن القيام بالمهمات التي يضطلع بها غيرها من الشعوب المتحضرة لأنها هرمت.

والمشكل الرئيسي إذن، بل أم المشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي، مشكلة الحضارة، من طرفين، كيف تدخل الشعوب العذراء في دورة حضارية جديدة، وكيف تعود الشعوب الإسلامية التي خرجت من حلبة التاريخ لدورة حضارية جديدة.

إذا سلمنا بهذه الحقائق يبقى علينا أن نفكر في مصير العالم الإسلامي، وكيف يمكن لنا الدخول في دورة حضارية جديدة، هذه القضية باختصار هي التي وجهتُ لها كل مجهوداتي المتواضعة منذ ثلاثين سنة، ولسنا في حاجة إلى حديث طويل لكي نؤكد أن الفكر الإسلامي قد وضع حلولاً لمشكلات العالم الإسلامي، وما يعانيه إنسان العصر الحديث من قضايا ومواقف.
إن القرآن الكريم قد وضع حلولاً لهذه القضايا والمواقف، ويجب أن نعمل على ضوء هذه الحقيقة، فمن ناحية المشكلات الاجتماعية التي تواجه الإنسان تَكَفَّل القرآن بوضع تشريع المعاملات الاجتماعية، كالزواج والمعاشرة والطلاق... إلخ، كما وضع تشريعًا للمسائل الدنيوية كالبيع والشراء والتجارة، من ناحية أخرى، فإن القرآن الكريم يضع في أعماق عقيدتنا الاستعدادات التي تؤهلنا لتطبيق المعاملات المتعددة ويحفزنا على الإبداع والابتكار.

إن حصيلة دراستي في هذه الناحية تتحدد في مجموعة من النقاط، أبرزها: أن الحضارة لا تصنع بمنتوجات حضارية مستوردة، بل هي التي تصنع وحدها المنتوجات الحضارية، وهذا يؤدي بنا إلى تساؤل تقليدي عن شروط الحضارة في جوهرها العام، والجواب من دون استطراد طويل: إن شروط الحضارة تتكون من ثلاثة عناصر: "الإنسان.. التراب.. والوقت" وإذا دقننا النظر في هذه العناصر فنستطيع أن نستخلص المعنى المطلوب.

وإذا كانت هذه فقط شروط الحضارة فلماذا لا توجد حضارة في مجتمع توافرت فيه هذه الشروط، وهي غالبًا ما تتوافر في مجتمعات العالم الثالث الذي يضم أكبر كتلة بشرية وأخصب مساحات من التراب ولديه من الوقت ما لغيره من الدول صاحبة الحضارة، ومع ذلك فلا توجد حضارة كالموجودة في الدول الأولى، وفي رأيي أن السبب في ذلك أن هذه العوامل تتطلب إلى جانبها عاملاً آخر، لا غنى عنه، هو العامل النفساني، هذا العامل الذي يصطلح البعض على تسميته بكلمة «العقيدة» والبعض الآخر يسميه «أيديولوجية» فنحن إذن أمام قضية واضحة وضوحًا كاملاً: إن الشروط اللازمة لتكوين الحضارة موجودة.. والذي ينقصنا هو العمل بموجب العقيدة الإسلامية.


الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يعيد المسلمين إلى عالم الحضارة الخلاقة والمبدعة، أو يدخلهم في حلبتها، ولكن شريطة أن يعتبروا أن هذه العقيدة رسالة هامة وضرورية، ولا غنى عنها.. ولكن العقيدة لا يمكن أن تحرك الطاقات إلا بقدر تسخيرها - أي العقيدة - لحاجات أبعد وأسمى وأجل من الحاجات اليومية.

 

**************************

* المصدر: كتاب "علماء وأعلام كتبوا في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية".

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة