الهاتف آداب ومنكرات

نعم الله تعالى على عباده كثيرة وعطاياه متتابعة وفيرة، يسبح فيها الناس آناء الليل وأطراف النهار، فكم من نعمة عاش الإنسان في أحضانها وتقلب في أكنافها، ونعم الله لا تعد ولا تحصى ولا تحسب ولا تستقصى:
(وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 18).
والناس تجاه النعم على قسمين: منهم من أطاع الله فيها، ومنهم من عصاه، والنعم إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت "فالنعم أضياف وقراها الشكر، والبلايا أضياف وقراها الصبر فاجتهد أن ترحل الأضياف شاكرة حسن القرى، شاهدة بما تسمع وترى" (1).
والهاتف المتنقل والثابت والمصور والناسخ بشتى صوره وأشكاله وألوانه وأنواعه، من أجل النعم لأنها قربت البعيد وقضت حوائج ووفرت الكثير والكثير من الوقت والمال والجهد والتعب، وربما كانت سببا في مد يد العون لمحتاج أو إغاثة ملهوف أو إسعاف مريض. والهاتف سلاح ذو حدين إن استخدم في موضعه فهو نعمة، وإلا فهو نقمة، لكن البعض استغلها في مساخط الله ومعاصيه، وهذه جملة من الآداب تقابلها منكرات لهذا الغرض المخصوص
أولا: مراعاة الوقت في الاتصال
من الأدب الرفيع
فالله عز وجل جعل الليل لباسا والنهار معاشا، ففي الليل يأوي الإنسان إلى بيته مرتاح الأعصاب هادئ المزاج، وربما أزعجه اتصال هاتفي لغير ضرورة في وقت متأخر من الليل، أو ربما استراح الإنسان في طعامه وشرابه مع أولاده وفجأة انطلق صوت الهاتف كالإنذار المدمدم لحاجة قد لا تكون من الأهمية بمكان، أما الاتصال لضرورة فلا حرج فيه، كما هو معلوم أن الضرورة تبيح المحظورة، والضرورة تقدر بقدرها، يقول المعصوم صلى الله عليه وسلم "المُسلِمُ مَن سَلِمَ المسلمون مِن لسانه ويده، والمُهاجِرُ مَن هجَرَ ما نهى الله عنه" (صحيح البخاري 6484)، بل لقد نهى الإسلام عن الثرثرة في الكلام بغير فائدة.
وإن كان الكلام الطيب دليلا واضحا على الإيمان، فإن الصمت عن اللغو من صفات عباد الرحمن.
ثانيا: عدم التسليم أثناء المكالمة
من الأمور التي اعتادها كثير من الناس أن يبدأ اتصاله بكلمة أجنبية عوض أن يبدأ الاتصال بالسلام، وهذا خطأ فادح، لأن السلام عنوان المحبة ودليلها، وسمة من سمات الإسلام وشعيرة عظيمة من شعائره الحميدة، يجب أن يحرص عليها المسلم في أثناء ضغطه لزر المكالمة لأنها بمنزلة طرق الباب، فمن طرق عليك الهاتف فكأنما طرق عليك الباب، وبعضهم يستخدم مكان السلام كلمات أخرى لم ترد عن المعصوم، صلى الله عليه وسلم، أليس هو القائل: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم" (صحيح مسلم رقم 54).
عن مجاهد قال: كان ابن عمر يأخذ بيدي فيخرج إلى السوق فيقول: "إني لأخرج وما لي حاجة إلا لأسلم ويسلم عليَّ فأعطي واحدة وآخذ عشرا، يا مجاهد: إن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فمن أكثر السلام أكثر ذكر الله" (٢).
يضاف إلى هذا عدم رفع الصوت أثناء المكالمة، فعلى المسلم أن يتأدب مع من هو أكبر منه ومساو له، ويعطف ويرحم من هو أصغر منه.. ورفع الصوت من الأمور غير المستحبة، خاصة مع كبار السن ومن لهم وقار، فضلاً عن كونه يجر على صاحبه نظرات الناس وضحكهم واستخفافهم، قال جل ثناؤه (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19).
ثالثاً: الاسترسال في المكالمات الهاتفية لا سيما مع النساء وتليين الجانب من قبلهن وتفخيمه وترقيقه من الأمور التي تجر إلى ما لا يحمد عقباه، قال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) (الأحزاب:32).
أمرهن الله تعالى أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين، (وقلن قولاً معروفاً) قال ابن عباس: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول من غير رفع صوت، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام، وعلى الجملة فالقول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس" (٣).
قال أبو الدرداء: لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: صموت واع، وناطق عالم. وقال عبدالله بن عمر: الكلام بمنزلة العطاس قليله دواء وكثيره داء. (4 ).
رابعاً: المباهاة في شراء الهاتف
وهذه المباهاة ليست من صفات أولي الجزالة ولا الرجولة، فالهدف من الهاتف هو أن يخدم الإنسان ويناسبه، لأن المسلم يجعل المال خادما له لا يخدمه، والتفاخر بشراء الهواتف الغالية لا تدل على أنك شريف أو وضيع، بل هي ضرب من الإسراف لأن التباهي إنما يكون في الأخلاق والآداب وتقوى الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
فالله عز وجل لا يرزق الإنسان لفضله أو شرفه أو علمه بل لمقتضى حكمته البالغة العظيمة.
خامساً: تشغيل الانتظار بالآيات والأحاديث
هناك خطأ فادح يقع فيه بعض مستخدمي الهاتف النقال، وذلك أنه يجعل نغمات الانتظار في هاتفه إما آيات قرآنية أو أدعية وأحاديث نبوية.. وهو بذلك يوقع المتصلين في حرج عظيم، فماذا لو أخذ السماعة على نصف آية أو حديث؟ بالطبع سيؤدي ذلك إلى تغيير المعنى أو يفيد معنى غير لائق بالقرآن الكريم. وعلى سبيل المثال قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (البقرة:26)، لو أخذت السماعة على (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي) حاشا لله تعالى، أو قوله تعالى (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: ١٨). وكان الوقف مثلاً (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ألا ما أبشع الوقف وأقبحه؟
ففي هذا امتهان للقرآن الكريم، وصاحبه آثم، وكذا قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" ماذا لو وقف على قوله "لا يؤمن أحدكم" الوقف هنا سيكون سيئا ومذموما، وربما كان صاحبه في الخلاء في غير مواطن الطهارة، فكيف يجعل أبلغ الكلام وأعظمه في هذه الأماكن الممتهنة؟
سادساً: الموسيقى والأغاني
وهذا واد فسيح ومرتع وبيل وبلاء عظيم، صحب الناس حتى في قلب المساجد والبيوت التي يعظم فيها رب البرية، فلا يكاد يسلم مسجد من المساجد من هذه الرنات المنكرة والأصوات الصاخبة، فهلا ارعوينا عن تدنيس بيوت الله تعالى بهذه النغمات والرنات التي تشغل المصلين وتلهيهم عن مخاطبة رب العالمين، بل إنها من أهم أسباب الخسوف قال صلى الله عليه وسلم: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قال رجل من المسلمين: يا رسول الله؛ ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور" (صحيح الجامع رقم 3665).
سابعاً: المعاكسات عبر التليفونات
وهذا بحر لجي ابتليت به الأمة في أيامنا وأصبح وصمة عار في وجوه أبنائها، فكم انتهكت من أعراض وعم الشتات من بيوت وانهارت من عروش، بسبب المعاكسات الهاتفية ومغازلة النساء في قعر بيوتهن، والاتصال على أرقام عشوائية ليتصيدوا بهن الفتيات ضعيفات القلوب، وويلهم من الله تعالى ومن وعيده، "صعد رسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم المنبر فنادَى بصوتٍ رفيعٍ فقال: يا معشرَ من أسلمَ بلسانهِ ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبهِ، لا تُؤذُوا المسلمينَ ولا تُعيّروهُم ولا تَتّبعوا عوراتهِم، فإنه من يتبِعْ عورةَ أخيهِ المسلمِ تتبعَ اللهُ عورتَهُ، ومن يتبعِ اللهُ عورتهُ يفضحْه ولو في جوفِ رحلهِ" (سنن الترمذي صفحة 2032).
فهلا انتهينا عن هذا المنكر العظيم، الذي فشا في المجتمعات الإسلامية واستطارت به الشرور وعمت به البلية؟
ثامناً: التنصت على المكالمات التليفونية وهذه البلية من الأمور الفادحة التي تتم عبر الأجهزة الإلكترونية، لأنه ربما يستمع من خلالها إلى مكالمات قد تكون بين زوجة وزوجها ووالد وولده، وقد يستمع فيها إلى مشاكل عائلية.
والإسلام أحاط الحياة الخاصة بسياج عظيم، والتجسس هو الباب الأول لكشف العورات والاطلاع على السوءات، والسبيل الموصل إلى هتك الستر الذي بين الله تعالى وعباده، وهذا الباب لو كان مستورا لكان أسلم للمرء في دينه ودنياه، وانظر إلى قول المعصوم، صلى الله عليه وسلم "من استمع إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهونَ صُبَّ في أذنهِ الآنُكُ يومَ القيامةِ" (البخاري 7042).
تاسعاً: انتشار رسائل الكذب والزور والاستهزاء بالدين
وهذا كله من الأمور المنكرة، فكم من عالم سُخر به، وكم من شريعة استهزئ بها ثم التنكيل واختراع القصص الخيالية وترويج الشائعات، ومقاطع الصور والفيديو وغيرها كثير من رسائل الفجور والخلاعة والمجون، التي يجب الترفع عنها (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (التوبة:65).
ويقول صلى الله عليه وسلم "ويلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بالحدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ القوْمَ فيَكَذِبُ ويلٌ لَهُ ويلٌ لَهُ" (الترمذي 2315).
وكذا رسائل الترويع والتخويف بين الآمنين، فمن الوفاء والإيمان أن تستغل الجوارح فيما خلقت له بالطاعة والعرفان لا بالمعاصي والنكران.
(1) الآداب الشرعية 2/185
(2) شرح السنة ٦/٣٣١
(3) الجامع لأحكام القرآن ١٤/١١٥,١١٦
(4) شرح السنة ٧/ ٣٤٠