22 فبراير 2025

|

بوصلة الوزارة.. وأولويات الإصلاح

في الوقت الذي ينتظر فيه المعلمون والإداريون حقوقهم المستحقة، وبينما يترقب المظلومون البت في تظلماتهم، نجد وزارة التربية منشغلة بأمور بعيدة كل البعد عن أولويات الميدان التربوي، وكأنها تعيش في عالم موازٍ لا يمت لواقع التعليم بصلة، فبينما تتكدس الملفات فوق المكاتب، ويضيع الوقت في قرارات إدارية شكلية، يعاني الميدان التعليمي من أزمات متراكمة، لم تجد حتى الآن من يعالجها بجدية.

المعلمون والإداريون الذين أفنوا أعمارهم في خدمة التعليم، ما زالوا ينتظرون سرعة البت في تظلمات الأعمال الممتازة، تلك المستحقات التي تعني لهم الكثير، التي تمثل جزءًا من التقدير المادي والمعنوي لمجهوداتهم، ولكن بدلاً من التعامل مع هذه القضايا بالسرعة المطلوبة، نجد التأخير والتسويف والمماطلة، وكأنها رفاهية يمكن الاستغناء عنها، أما المزاولات المستحقة لأعمال الامتحانات من مراقبة وتصحيح، فتبقى عالقة دون سبب مفهوم، رغم أن المعلمين يؤدون هذه الأعمال بكل التزام ومسؤولية. 

إلى جانب ذلك، فإن الوظائف الإشرافية، التي تمثل عصب القيادة التربوية في المدارس، تأخرت بشكل غير مبرر هذا العام؛ ما خلق فراغًا قياديًا ألقى بظلاله الثقيلة على العملية التعليمية، فكيف يُطلب من المدارس أن تسير بكفاءة بينما تفتقد قياداتها؟

بدلًا من إصلاح الوزارة وتصحيح الأخطاء التي أرهقت الميدان، نجد أن الحل السحري دائمًا هو «تدوير القيادات»، وكأن المشكلة ليست في الأشخاص الذين أخفقوا في مهامهم، بل في المناصب التي يشغلونها! تتغير الأسماء، ولكن الوجوه تبقى هي نفسها، حاملة معها ذات السياسات العقيمة والرؤى المحدودة، وكأن الوزارة لا تمتلك بدائل قادرة على قيادة المرحلة بكفاءة وابتكار، المشكلة ليست فقط في إعادة تعيين القيادات ذاتها، بل في استمرار الفكر الإداري القديم الذي يعرقل التطوير، ويجعل الوزارة تدور في حلقة مفرغة من الفشل المتكرر.

ليس هذا فقط، بل إن الوزارة أبهرتنا بـ«بطولات وهمية»، حيث تتفاخر باسترداد أموال بسبب أخطاء ارتكبتها هي بنفسها في السابق، تلك الأخطاء التي لم تكن مجرد زلات إدارية عابرة، بل كانت نتيجة قرارات عشوائية، وتطبيق خاطئ للقوانين، بسبب قيادات لم تكن على قدر المسؤولية، وبدلاً من محاسبة المتسببين في هذه الأخطاء، يتم تصوير تصحيحها وكأنه إنجاز يُحسب للوزارة! وكأن المطلوب من الجميع أن يصفقوا لتدارك هفوات الماضي، دون مساءلة أو مراجعة حقيقية لأسباب هذه الإخفاقات المتكررة.

لم تكتفِ الوزارة بكل ما سبق، بل قررت تقسيم الكتب المدرسية بحجة التخفيف على الطالب، إلا أن النتيجة جاءت عكسية تمامًا، التوقيت الخاطئ لتنفيذ هذا القرار أدى إلى تشتت الطلاب وعدم انسجامهم مع هذا النظام الجديد، حيث وجدوا أنفسهم أمام أجزاء متفرقة من المنهج تُوزع على مراحل مختلفة؛ ما تسبب في ارتباكهم خلال الاستذكار والتحضير للدروس، لم تراع الوزارة ضرورة التوازن بين الأجزاء المقسمة؛ ما جعل بعض المواد تسير بإيقاع غير متناسق، في حين أن الطالب يحتاج إلى تنظيم موحد بين المناهج المختلفة.

إلى جانب ذلك، فإن تقسيم الكتب لم يحقق أي فائدة فعلية، بل أثقل كاهل ميزانية الوزارة بتكاليف طباعة إضافية، في وقت تحتاج فيه المنظومة التعليمية إلى استثمار هذه الموارد في تحسين جودة التعليم، وليس في مضاعفة تكاليف الطباعة والتوزيع، كما أن تعدد الأجزاء أدى إلى زيادة احتمالية ضياع أو فقدان الكتب؛ ما يرهق الطالب وأسرته في البحث عن بدائل أو انتظار نسخ جديدة من الوزارة، وكأن مشكلة نسيان الكتب في المدرسة أو فقدانها لم تكن كافية، ليأتي التقسيم فيزيد الأمر تعقيدًا.

وهكذا، بدلاً من تحقيق الراحة والتخفيف على الطالب، أضافت الوزارة عبئًا جديدًا لم يكن في الحسبان، ليصبح السؤال الأهم: هل هناك دراسات علمية وميدانية تسبق مثل هذه القرارات، أم أن العشوائية لا تزال المحرك الأساسي للسياسات التربوية؟

إذا أراد الوزير الإصلاح الحقيقي، فليبدأ من مكتبه، حيث يعج بالقياديين المعاد تدويرهم، الذين لا همّ لهم سوى عرقلة أصحاب المظالم من الوصول إليه، الإصلاح لا يبدأ من القشور، ولا يتحقق بإصدار تصريحات إعلامية رنانة، بل هو قرار شجاع يتطلب مراجعة جذرية لآليات العمل الإداري، وإحلال الكفاءات الحقيقية محل الفشل، وإعادة الاعتبار للمعلم والطالب كأولوية قصوى في العملية التعليمية، فكيف يُطلب من الميدان أن ينهض ويتطور، بينما تعيش الوزارة ذاتها في حالة من الجمود الإداري والتخبط في القرارات؟

فهل يكون هناك إصلاح حقيقي هذه المرة، أم أن الوزارة ستواصل عزفها المنفرد على أوتار الفشل؟ وهل سيشهد قطاع التعليم نهضة حقيقية تعيد له مكانته، أم أن الأمر سيبقى مجرد تدوير للمناصب وإعادة إنتاج للأزمات ذاتها؟ أم أن الوزارة مستمرة في انتهاج سياسة «عبّي كيس»؟ تلك السياسة التي وصفها أحد الموجهين ذوي الخبرة في الوزارة، حين قال: إن التربية لا تهدف إلى الإنجاز بقدر ما تسعى إلى إصدار التصريحات الرنانة وإغراق التقارير بالأرقام التي توهم المتابعين بأن هناك عملاً حقيقياً يجري على الأرض.

«حققنا إنجازات ملموسة!»، «نسبة التنفيذ بلغت كذا!»، «نجحنا في تطبيق أحدث النظم!».. عناوين تصدرت الصحف والتقارير الرسمية، لكنها في الواقع ليست سوى حشوٍ إعلامي لإظهار الوزارة في صورة المؤسسة المجتهدة، بينما يكتشف المعلم والطالب والإداري يومًا بعد يوم أن الميدان لم يتغير، وأن الأزمات القديمة تُعاد تدويرها تحت مسميات جديدة.

فإلى متى تستمر الوزارة في تعبئة التقارير بدلًا من تعبئة العقول بالعلم الحقيقي؟ وإلى متى تكون الأولوية للشكل على حساب المضمون؟ وهل سيظل «عبّي كيس» هو الشعار الخفي الذي يحكم سياسات الوزارة، أم أن هناك من سيقف ليعيد بوصلة الإصلاح إلى مسارها الصحيح؟


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة