حدود أفراح العيدين

س: ما هي حدود اللهو المباح والنشاط الاجتماعي في عيدي الإسلام «الفطر والأضحى»؟
ج: روى البخاري عن عائشة رضي الله
عنها أنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان
بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة
الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟! فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: (دعهما، فلما غفل غمزتهما، فخرجتا).
قالت عائشة: «وكان يوم عيد يلعب
السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين
تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى
إذا مللت، قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي».
هذا حديث صحيح وَرَدَ في صحيح
البخاري بروايات متعددة، وهو يشير إلى الفوائد التالية:
الفائدة الأولى
أن العيد موسم فرح وسرور، وإنما كان
كذلك لأن كلًا من العيدين يأتي بعد عبادة عظيمة هي ركن من أركان الإسلام، فعيد
الفطر يأتي بعد إتمام المسلمين لفريضة الصيام، وعيد الأضحى بعد إتمام أركان فريضة
الحج، وفي كل من الفريضتين إن تقبلها الله تعالى نعمة عظيمة تحل بديار الإسلام،
فناسب إظهار الفرح بهما، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾
(يونس: 58).
الفائدة الثانية
أن من مظاهر الفرح في العيدين
«الغناء» فهو مظهر للفرح والسرور، وهو أيضًا يجلب الفرح والسرور ويحدث في النفس من
الانبساط والاسترواح وتجديد النشاط ما هو معلوم لكل أحد، وإن بيت النبوة الكريم
عرف هذا اللون من الترفيه، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجته أم المؤمنين
الصديقة وسمعه أبوها الصديق رضي الله عنهما وأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على
الصديق تشدده في ذلك، ولم يوافقه على أن ذلك مزمار الشيطان، وأنَّى لمزامير
الشيطان أن تلج إلى خير بيت على ظهر الأرض؟ فمن لغيره من البيوت إذن؟!
الفائدة الثالثة
أن الغناء المذكور كان من النساء وقد
سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه المكرم، ولم يصما أذنيهما عنه، وإن قال بعض
المؤلفين من الشرعيين أن المغنيتين المذكورتين كانتا طفلتين صغيرتي السن، وهذا ما
لا يساعد على لفظ الحديث، بل الجاريتان هنا بمعنى المملوكتين، إذ في بعض روايات
البخاري- جاريتان من جواري الأنصار- أي مملوكتان لبعض الأنصار، وفي رواية لبعض
المحدثين سماهما، فقال «وحمامة وصاحبتها تغنيان» وفي رواية أن إحداهما كانت لحسان
بن ثابت غير أن في بعض الروايات «وليستا بمغنيتين» أي ليستا من المغنيات
المحترفات.
الفائدة الرابعة
أن ذلك الغناء كان مصحوبًا بالدف
تضرب المرأتان به، ففي رواية مسلم «تغنيان بدف» وللنسائي «بدفين» والدف آلة مطربة
بدائية.
الفائدة الخامسة
أن الجاريتين كانتا تغنيان بشِعر
«بعاث» وهي معركة كانت في الجاهلية بين الأوس والخزرج، فقال فيها الشعراء ما قالوا
من الفخر والهجاء، فكان غناؤهما حماسيًّا أي ليس ذلك الغناء الذي يهيج الشهوات
الآثمة؛ بل الذي يشعر سامعه بالقوة وعزة النفس والصبر على مآسي الحروب وقهر
الأعداء، ويذَّكر النفوس بحلاوة النصر واقتطاف ثمار الشجاعة وقوة البأس، ولم يكن
يصحبه التكسر والتمايل الذي يصحب غناء المحترفات عادة.
الفائدة السادسة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لأبي بكر الصديق: دعهما، وفي رواية (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدًا وهذا
عيدنا). وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم يدل على تقديره للدور الاجتماعي الذي
تقوم به الأعياد في إضفاء البهجة على حياة الأمم والشعوب، وأن عيدنا أهل الإسلام
هو عيد الفطر أو الأضحى، فهو احتفال بمناسبتين من أعظم المناسبات، تتمثل فيهما
طاعة الله والفرح بها، لا كغيرنا من الأمم التي اتخذت أعيادها بمناسبات تافهة
بالنسبة إلى هذه، من ولادة فلان، أو ارتقاء فلان العرش، أو بدء الربيع، أو غير
ذلك.
الفائدة السابعة
أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر
عادة جميلة في الأعياد، وهي قيام فرقة من الحبشة بالرقص -رقص الحرب- وهي تحمل
الأسلحة على طريقة العرضة الكويتية، أو قل إن العرضة الكويتية أنشئت على نسق
العرضة النبوية، وفي بعض الروايات أنه قال: (ولتعلم اليهود أن في ديننا سعة).
الفائدة الثامنة
أن تلك العرضة كانت في المسجد- كما
جاء في رواية مسلم- المسجد النبوي بذاته مع ما يصحب تلك العرضة من الحركات العنيفة
وقعقعة السلاح والصراخ واجتماع النظارة، وربما ضحكهم وأصواتهم بتشجيع العارضين
وإطلاق الهتافات بالاستحسان أو الاستهجان، فأين هذا مما يفرض الآن على المساجد من
الجمود والكآبة وخفض الأصوات؟ بأحاديث واهية تحاط بهالة من القدسية بحيث لا يجرؤ
أحد على مخالفتها ويشنع على من خالفها وهي للمخالفة أهل، على أن صيانة المسجد من
حرام القول والفعل أمر واجب.
ولقد حضرت يومًا بالمسجد الحرام عام
١٣٧١هـ يوم أن غمرت السيول أرض المسجد الحرام حتى ارتفعت فوق عتبة الكعبة، وأتت
معها بكميات هائلة من الطين ترسبت في حصوات المسجد وبقيت بارتفاع قريب من شبرين
بعد أن جفت المياه، فجاء أهل مكة بمكايلهم ومساحيهم وبدأوا يتعاونون جزاهم الله
خيرًا على حمل الأتربة وإلقائها خارج المسجد وهم يغنون وينشدون بأصوات عالية، فقال
أحد المتنطعين للشيخ «محمود شديل» رحمه الله وكان من خيار علماء السُنة: ألا تنهى
هؤلاء عن رفع أصواتهم وعن الغناء في المسجد؟ فقال رحمه الله: قد أقر النبي صلى
الله عليه وسلم الحبشة في مسجده الشريف على مثل هذا.
الفائدة التاسعة
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكتفِ بأن يرى بنفسه الراقصين من الحبشة في مسجده الشريف، بل انتهز الفرصة ودعا
زوجته أُم المؤمنين لتشاهد هذا المنظر المفرح، فما بالك بنساء غيره من الصحابة
رضوان الله عليهم، لا شك أن بعضهن قد حضر المهرجان الراقص وتمتعن برؤية الحركات
الحربية، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بالانصراف بعد نظرة خاطفة إلى
الراقصين، وإنما بقي معها يسترها بردائه من النظارة، وهي تشهد الاحتفال حتى كانت
هي التي ملت واكتفت وانصرفت.
الفائدة العاشرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكتفِ بمجرد الوقوف والنظر إلى اللاعبين، بل كان يشجعهم ويلهب حماستهم لأداء
أدوارهم على الوجه الأكمل فكان يقول لهم: (دونكم يا بني أرفدة) وهذا إغراء لهم بما
هم فيه.
الفائدة الحادية عشرة
أننا نضم إلى ما تقدم أن عيد الأضحى
شرع فيه التضحية توسعة على الأهلين بالمطاعم الفاخرة والمأكولات الشهية، التوسعة
عمومًا مشروعة في الأعياد، وكذلك لبس الثياب الفاخرة واستعمال الطيب والزينة وسائر
أنواع التجمل وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر
الله عز وجل).
الفائدة الثانية عشرة
أن هناك نشيدًا جماعيًّا كان يؤدى
يوم العيد.. نشيد أمر به الله تعالى وأوصى بكلماته، وأداه الصحابة الكرام خلف
أئمتهم العظام فكان الإمام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين «يكبر في قبته بمنى فيسمعه
أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق بتكبيرهم حتى ترتج منى تكبيرًا» و«كان
النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في
المسجد».
الفائدة الثالثة عشرة
المظهر الجامع لصلاة العيد بما فيها
من الاجتماع لجميع المؤمنين، حتى النساء اللاتي لم يعتدن الخروج أمرهن النبي صلى
الله عليه وسلم بالذهاب إلى مصلى العيد، ومصلى العيد في صحراء قريبة من المسجد
وليس في المسجد، وقال صلى الله عليه وسلم (ليخرج العوائق وذوات الخدور والحيض
ويعتزل الحيض المصلى وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين) قالت أُم عطية: «كنا نؤمر أن
نخرج البكر من خدرها، حتى تخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون
بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته».
ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم
يخصهن بخطبة فيترك المنبر ويأتي إلى مكان اجتماعهن بالمصلى فيخطبهن خطبة خاصة
ويأمرهن بالمشاركة في الدعم الاقتصادي للدعوة الإسلامية حتى كانت الواحدة منهن
تقدم خاتمها أو قرطها الذهبي صدقة وطلبًا لما عند ربها عز وجل.
فهذا الحديث العظيم وما أشرنا إليه أثناء بیاننا لفوائده يوضح كيفية استقبال المسلمين من الصحابة الكرام للعيد، وكيف كانوا يحولون أيامهم إلى أيام نشاط وحركة وسرور يغتبط فيها الجميع صغارًا وكبارًا ذكورًا وإناثًا، ويشاركون فيها بمختلف أنواع المشاركة مما يجعله عيدًا بحق، بل عيد الأعياد.
س: لم يسمع أذان المؤذن لبُعد بيته عنه هل هذا يسقط الوجوب؟ وهل يجب عليه الصلاة في المسجد أم يصلى في بيته؟
صلاة الجماعة سُنة مؤكدة وَرَدَ في
فضلها أحاديث كثيرة نذكر منها على سبيل المثال عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (وصلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه
خمسًا وعشرين ضعفًا) كما ورد في التكاسل عنها تحذير شديد، من ذلك: عن ابن عمر رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر
بحطب فيحتطب، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس ثم أخالفه إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم)
متفق عليه.
غير أن هناك أعذارًا عددها العلماء
تبيح التخلف عن الجماعة. استنادًا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي
رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر- قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم
تقبل منه الصلاة التي صلى)، وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتي
النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى
المسجد، فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، ثم رخص له، فلما ولى دعاه فقال: تسمع
النداء بالصلاة؟ قال نعم: قال فأجب) رواه مسلم.
غير أن بعض العلماء توسع في تلك
الأعذار وبعضهم ضيق، فالشافعية والحنفية قالوا: لا يجب على مريض ومقعد ومقطوع يد
ورجل من خلاف ومفلوج وشيخ كبير أو عاجز وأعمى وإن وجد قائدًا ولا من حال بينه
وبينها مطر وطين، ومدافعة الأخبثين وحضور الطعام واشتغاله بالفقه، وإرادة السفر،
وبعد عن المسجد بشرط (لا يسمع النداء)، وقصر الحنابلة ومن وافقهم العذر على الخوف
أو المرض.
ومن فاتته الجماعة في المسجد طلبها
في بيته أو في مسجد آخر، فإذا لم يدركها صلى في بيته أو في المسجد منفردًا على حد
سواء، وإن كانت الصلاة في المسجد منفردًا أفضل من الصلاة في بيته منفردًا للفريضة
والله أعلم [1].
[1] - انظر في ذلك
ابن عابدين فقه حنفي والمجموع للنووي شافعي والمغني حنبلي ومنح الجليل مالكي في
صلاة الجماعة.