رد «حماس» على خطة ترمب.. سياسة الانتقاء بين المرونة ‏والتمسك بالثوابت

د. إياد القرا

04 أكتوبر 2025

80

لم يكن ردّ حركة «حماس» على مقترح ترمب بشأن غزة مجرد بيان صحفي اعتيادي، بل عكس رؤية سياسية محسوبة بدقة، تنطلق من وعي بطبيعة المرحلة، وحساسية السياق المحلي والإقليمي والدولي.

الردّ اعتمد إستراتيجية الانتقاء؛ أي الترحيب بما ينسجم مع المصلحة الوطنية الفلسطينية، والتوقف عند البنود التي تمسّ الثوابت الجوهرية أو تتطلّب نقاشًا معمقًا؛ وبهذا المعنى، قدّمت الحركة نفسها كطرف سياسي ناضج قادر على التعاطي مع المبادرات الدولية بمرونة، لكنه لا يساوم على حقوق شعبه، وهذا ما جعل الرد موضع اهتمام وترحيب دولي.

أولًا: طبيعة المقترح وسياق الردّ:

مقترح ترمب لم يكن معزولًا عن البيئة السياسية القائمة، بل جاء في ظل حرب إبادة شرسة يتعرّض لها قطاع غزة، ومع محاولات أمريكية – «إسرائيلية» لفرض ما يمكن تسميته تصفية سياسية تحت القصف.

فالمبادرة لم تُطرح كخطة تسوية عادلة، بل كإملاءات تستهدف تحقيق ما عجز الاحتلال عن فرضه عبر القوة العسكرية؛ إضعاف المقاومة، كسر صمود غزة، وتغيير قواعد المشهد الفلسطيني.

في هذا السياق، جاء الردّ الفلسطيني حذرًا وذكيًا، فالحركة كانت تدرك أن رفض المقترح جملة وتفصيلًا قد يمنح خصومها ذريعة لاتهامها بالتعطيل ورفض الحلول، بينما القبول المطلق يعني الوقوع في فخّ سياسي خطير يشرعن التنازل عن الثوابت.

لذلك، اعتمدت الحركة سياسة الانتقاء، وهي إستراتيجية تجمع بين المرونة والتشدّد، بين الانفتاح على الحوار والتمسّك بالخطوط الحمراء.

ثانيًا: مضمون الردّ.. الترحيب بما يخدم والتحفّظ على ما يهدّد:

جاء مضمون الردّ واضحًا في تفكيك المقترح بندًا بندًا:

1- بنود إيجابية تم الترحيب بها بشكل مباشر، مثل: وقف العدوان، وانسحاب الاحتلال من القطاع، وإدخال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل، ورفض التهجير القسري.

هذه البنود تلامس المصلحة الوطنية والإنسانية العاجلة، وتنسجم مع أولويات الشعب الفلسطيني.

2- بنود إشكالية، مثل مستقبل إدارة غزة أو الترتيبات الأمنية، أعلنت الحركة استعدادها لمناقشتها من دون التزام مسبق.

هذا الأسلوب أبقى الباب مفتوحًا للتفاوض، لكنه لم يمنح عدوها وخصومها انتصارًا سياسيًا مجانيًا.

3- بنود مرفوضة بشكل قاطع، وعلى رأسها مسألة نزع سلاح المقاومة أو فرض وصاية دولية على غزة، وهنا وضعت الحركة حدودًا حمراء لا تقبل التنازل.

بهذا التفصيل، تميّز الردّ عن نمط الردود المطلقة التي تقوم على «نعم» أو «لا».

لقد كان ردًا محسوبًا يوازن بين المصالح الوطنية والضغوط الدولية.

ثالثًا: لغة الردّ.. الدبلوماسية بدل الانفعال:

من أبرز ما لفت الانتباه في الردّ هو لغة الخطاب التي اختارتها الحركة.

فقد جاء الردّ بلغة سياسية ودبلوماسية، بعيدة عن الشعاراتية أو الانفعال، هذه اللغة أعطت الانطباع بأن الحركة ليست مجرد فصيل مقاوم يعمل في الميدان، بل هي أيضًا فاعل سياسي يدرك قواعد اللعبة الدولية، ويعرف كيف يوصل رسائله بوضوح وبأقل خسائر ممكنة.

وقد انعكس ذلك على صورتها في عدة مستويات:

  • محليًا: عزّز الردّ ثقة الجمهور الفلسطيني بأن حركته تقاتل وتفاوض في آن واحد، وأنها تعرف كيف تحمي الثوابت وتحقق مكاسب إنسانية.
  • إقليميًا: أعطى الردّ إشارات طمأنة للعواصم العربية والإسلامية بأن الحركة ليست معطلة للحلول، بل منفتحة على المبادرات بشرط عدم المساس بالحقوق الجوهرية، لذلك رحبت غالبية الدول الإقليمية بموقفها، وخاصة مصر وقطر وتركيا.
  • دوليًا: جعل الحركة تظهر بصورة حركة عقلانية مسؤولة، لا جهة متشددة رافضة للحوار.

وهذا مهم لتوسيع دائرة التعاطف الدولي، خاصة في ظل الانتقادات التي وُجّهت للمبادرة نفسها من أطراف غربية.

رابعًا: إستراتيجية المرونة – الخطوط الحمراء:

يمكن القول: إن الردّ رسم معادلة جديدة للحركة:

  • مرونة تكتيكية في التعامل مع الوسطاء والمبادرات، ما يجنّبها تهمة التعطيل، ويفتح الباب أمام كسب إنجازات مرحلية كوقف الحرب أو إدخال المساعدات.
  • صلابة إستراتيجية في القضايا غير القابلة للتفريط؛ سلاح المقاومة، ووحدة الأرض الفلسطينية، ورفض الوصاية الأجنبية أو أي مشروع يقسّم فلسطين سياسيًا وجغرافيًا.

هذه المعادلة تحمي الحركة من الانزلاق نحو فخاخ سياسية، وتمنحها في الوقت ذاته هامش مناورة أوسع أمام الوسطاء.

خامسًا: الانسجام مع البيئة الوطنية والدولية:

لم يكن الردّ موقفًا منعزلًا، بل انسجم مع أجواء أوسع:

  • على الصعيد الوطني: التقت لغة الردّ مع المزاج العام للفلسطينيين، ومع مواقف معظم الفصائل والنخب الوطنية التي رفضت تحويل غزة إلى كيان منفصل أو إدارة خاضعة لوصاية دولية.
  • على الصعيد الدولي: تماشى الردّ مع بعض الأصوات الغربية والدولية التي وجّهت انتقادات حادة للخطة، معتبرة أنها منحازة للاحتلال وتفتقر إلى ضمانات حقيقية لوقف الحرب وإنهاء الحصار، هذا الانسجام منح الردّ قوة إضافية، إذ بدا وكأنه صوت الشعب الفلسطيني الممتد داخليًا وخارجيًا، لا مجرد رأي فصيل واحد.

سادسًا: الرسائل السياسية في الردّ:

الردّ حمل عدة رسائل ضمنية:

1- إلى الداخل الفلسطيني: المقاومة ليست مجرد بندقية، وإنما مشروع وطني شامل يدير المعركة سياسيًا كما يديرها عسكريًا.

2- إلى الاحتلال: لن تنجحوا في فرض الاستسلام عبر الحصار والدمار، والمقاومة ستبقى متمسكة بسلاحها وحقوق شعبها.

3- إلى الوسطاء: نحن طرف منفتح على الحوار ولسنا في موقع المعرقل، لكن أي اتفاق لن يمرّ من دون أخذ ثوابت شعبنا بالاعتبار.

4- إلى المجتمع الدولي: الحركة جاهزة للانخراط في أي مسار ينهي الحرب ويرفع الحصار، شرط ألا يتحول إلى عملية سياسية لإقصاء المقاومة أو تكريس الاحتلال.

سابعًا: النتائج المتوقعة:

  • على المستوى السياسي: الردّ يمنح الحركة موقعًا متقدمًا كطرف أساسي في أي ترتيبات مقبلة تخصّ غزة، ويجعل تجاوزها أمرًا مستحيلًا.
  • على المستوى الإعلامي: يحسن صورة الحركة أمام الرأي العام المحلي والدولي، ويكسر الصورة النمطية التي يحاول خصومها إلصاقها بها كجهة رافضة لكل شيء.
  • على المستوى الميداني: يوفر غطاءً سياسيًا لمواصلة المقاومة المسلحة، باعتبارها عنصر ضغط يدفع الاحتلال والوسطاء إلى أخذ المطالب الفلسطينية على محمل الجد.

ثامنًا: الدروس والتحديات:

الردّ الأخير يعكس خبرة سياسية راكمتها الحركة عبر تجارب سابقة، مثل «مقترحات ويتكوف» أو تفاهمات التهدئة السابقة، ففي كل مرة، اختارت الحركة التعامل بمرونة محسوبة، مع الحفاظ على سلاحها وخطوطها الحمراء، غير أن التحدي الأكبر يبقى في قدرة الحركة على تحويل هذا الموقف إلى إنجاز سياسي عملي؛ وقف الحرب فعليًا، وكسر الحصار، وضمان عدم العودة إلى معادلة «هدوء مقابل هدوء» التي استنزفت غزة سابقًا.

كما أن التحدي الآخر يتمثل في مواجهة الضغوط العربية والدولية التي قد تتصاعد لإجبارها على القبول بمزيد من التنازلات، خاصة فيما يتعلق بمستقبل إدارة غزة وسلاح المقاومة.

في النهاية، يمكن القول: إن ردّ الحركة على مقترح ترمب لم يكن مجرد موقف تكتيكي عابر، بل كان تعبيرًا عن إستراتيجية أوسع تقوم على الجمع بين الانفتاح على المبادرات والتمسّك بالثوابت الوطنية.

إنه ردّ يعكس إدراكًا لضرورة الجمع بين المرونة السياسية والصلابة الإستراتيجية، بما يحمي مصالح الشعب الفلسطيني ويقطع الطريق على مشاريع تصفية قضيته.

لقد أثبت الردّ أن المقاومة ليست في موقع المعرقل كما يحاول خصومها تصويرها، بل في موقع الفاعل السياسي المسؤول الذي يعرف متى يفاوض، ومتى يرفض، ومتى ينتقي ما يخدم شعبه.

وفي ظل استمرار الحرب والحصار، يظل هذا النهج هو الأكثر قدرة على حماية غزة، وتعزيز الموقف الفلسطيني في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة