رسائل للشباب من مدرسة غزة

أتذكرون الأطفال الذين كانوا يلتفون حول كرسي الشيخ القعيد أحمد ياسين، الزعيم الروحي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الذي اغتيل وهو عائد من صلاة الفجر، في 22 مارس 2004م، بعد أن استهدفته مروحيات الاحتلال بعدة صواريخ في حي الصبرة بقطاع غزة؟
هؤلاء هم شباب ورجال المقاومة الآن في غزة الآبية، وقد ساروا على درب الشيخ الشهيد، الذي رباهم على أمرين لا ثالث لهما؛ إما النصر وإما الشهادة، وهي العبارة التي يختتم بها الناطق العسكري لـ«كتائب القسام» أبو عبيدة بيانات المقاومة، و«إنه لجهاد.. نصر أو استشهاد».
إن ما سطرته غزة من بطولة تاريخية في «طوفان الأقصى»، نتاج ثمرة وضعها الشيخ ياسين ورفاقه، لتُسقى بماء العزة والكرامة، إلى أن شهدت الأمة أسطورة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لا يهابون الموت، يعيشون تحت الأرض، يواجهون دبابات العدو بصدور عارية، يلاحقون المسيرات بقذائفهم، يردون على المحتل الصاع صاعين.
هذا الشباب تربى في مدرسة القرآن، وترعرع بين جنبات السُّنة النبوية الشريفة، اشتد عوده على الصوم، وزهد قلبه بقيام الليل، وقويت عزيمته بالجهاد في سبيل الله، لنشهد جيلاً جديداً أعاد أمجاد سعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير، وأسامة بن زيد، وعبدالله بن عمر، ورافع بن خديج، وسمرة بن جندب، وغيرهم من شباب الصحابة.
لم يأت ما نشهده في غزة من فراغ، بل نتاج تطبيق برنامج «الفتوّة» في صفوف المرحلة الثانوية في مدارس القطاع، إثر تعاون مثمر بين وزارتي التربية والتعليم والداخلية و«كتائب الشهيد عز الدين القسام».
البرنامج الذي انطلق عام 2012م، شمل حوالي 100 ألف طالب، كان شعارهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن القويّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، ليمنح الأمة جيلاً مقاوماً لا يلين ولا يستسلم، بل يحمل بذور الرجولة والبطولة، وفق معايير علمية مدروسة، تشمل التأهيل إيمانياً وثقافياً وبدنياً، والتمرس على النظام والانضباط والتضحية.
خريجو هذا البرنامج تلقوا دورات تدريبية متخصصة تتعلق بتنمية المعارف والقدرات الذاتية، والتمسك بالهوية الإسلامية، وإعلاء الحس الأمني، والتدريب على الفنون القتالية، والإسعافات الأولية، والدفاع المدني، والتعامل مع الأجسام المشبوهة، وإطفاء الحرائق، ومكافحة التخابر، وغير ذلك من فنون ومهارات نوعية.
أعتقد أن غزة الآن تحصد ما غرسته في أطفالها ليصبحوا رجالاً وقادة للمقاومة، يذيقون العدو صنوف الهزيمة والقهر، نرى منهم مشاهد «الأكشن» حقيقة لا تمثيلاً، هذا يفجر دبابة، وثان يتصدى لمدرعة، وثالث يسقط طائرة، ورابع يعد كميناً محكماً، وخامس يخفي أسراه لأكثر من 500 يوم، دون أن تتمكن أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية من تعقب أثرهم.
هذا الجيل أذهل العالم، حينما قدم قبل أيام مقاتلاً قسامياً مبتور القدم خلال عملية تسليم 3 أسرى «إسرائيليين» في دير البلح وسط قطاع غزة، لتكون مشاركته رسالة للعدو، مفادها أن الشعب الفلسطيني لن يقهر، ورسالة للأمة بأن قدمه لم تقعده عن الجهاد في سبيل الله.
شباب غزة قدموا ملحمة وهم صائمون صابرون على جبهات القتال، منهم من يقف على ثغر لأيام، ليس في جوفة سوى تمرات وبعض من ماء، ومنهم من يرفع سبابته ليعلن شهادة التوحيد، وهو يرتقي شهيداً بين يدي الله.
منهم حفظة القرآن الكريم، والصوامون، والقوامون، والصابرون، وقبل ذلك كله الماهرون بفنون الكر والفر، العالمون بفنون وتكتيكات الحرب، ليجمعوا بين علوم الدنيا والآخرة، وفي جعبتهم، سيرة أبطال «بدر»، و«الخندق»، و«خيبر»، و«مؤتة»؛ عملاً وقولاً.
إن شباب غزة أتقنوا صناعة المقاومة، من رمي الحجارة إلى إطلاق الصواريخ، ومن السكين إلى قذائف «الياسين 105»، ومن العبوات المفخخة إلى إسقاط الطائرات المسيرة، ليقهروا واحداً من أقوى جيوش العالم.
في الوقت ذاته، تعلموا فنون السياسة والحكم، وأتقنوا أساليب إدارة الدول، وبرعوا في هيكلة المؤسستين الأمنية والعسكرية، وأجادوا إستراتيجيات التفاوض، وقدموا صورة مذهلة لإعلام واع واحترافي، كانت «طوفان الأقصى»، وصفقات تبادل الأسرى، مثالاً حياً على ذلك.
إن شباب غزة ليسوا كشباب اليوم، لا يعبؤون بقصص الحب والعشق، وأفلام العنف والجنس، وقصات الشعر، و«براندات» المشاهير، ومباريات «البيريميرليج»، وترندات «تيك توك»، بل جُلّ همهم تحرير الوطن، واستعادة القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن من يوصفون بـ«المراهقين» في بلداننا العربية والإسلامية كانوا في فلسطين أشد بأساً وأشد تنكيلاً بعدوهم، بينما يرتع نظراؤهم في أحضان الملاعب والمقاهي وألعاب «الببجي» ومواد الجنس والتدخين والمخدرات.
إذا كانت أسباب النصر 100 سبب، فإن شباب غزة إلى جانب شيوخها ونسائها أخذوا بـ101 من الأسباب، وهم يمتثلون قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
إذا كان هناك مدرسة متكاملة على وجه الأرض تستحق الولوج إليها وتعلم مناهجها وتتبع خطاها؛ فهي مدرسة غزة.