غزة والقيم في مواجهة الصفقات

لم تمض أسابيع على تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فترة رئاسته الجديدة، لكنه مع ذلك خرج علينا بعدد قياسي من التصريحات المثيرة للجدل، لعل الأكثر أهمية منها بالنسبة لنا هو ما جاء متعلقًا بمستقبل قطاع غزة، حيث يختزل ترمب القطاع في صفقة عقارية، تستهدف هذه الصفقة ابتداءً تهجير أهل غزة، وتطوير مشاريع عقارية واستثمارات تحول القطاع إلى «ريفيرا الشرق الأوسط»، وأضاف ترمب أنه ليس متعجلًا في تحقيق هذا الأمر، وأن الولايات المتحدة ستتسلم القطاع من «إسرائيل» بعد انتهاء القتال لتبدأ في تنفيذ هذه الصفقة، وأن رافضي التهجير من القوى الإقليمية سيوافقون.
من جهة أخرى، تقدمت جنوب أفريقيا، في ديسمبر 2023م، بدعوى قضائية ضد «إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية، تتهمها فيها بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وبعد أيام من ولايته الجديدة وقع ترمب على أثر هذه الدعوى أمرًا تنفيذيًا بوقف المساعدات المالية لجنوب أفريقيا، مُعربًا عن استيائه من ملاحقة جنوب أفريقيا لـ«إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية.
لماذا إذًا يتصرف ترمب على هذا النحو؟ ولماذا تدافع جنوب أفريقيا عن غزة دون أي صلة من جغرافيا أو تاريخ؟!
تردنا إجابة هذا السؤال لإشكالية علاقة السياسة بالقيم، أو موقع الأخلاق من سياسة الدول، فهناك رؤيتان تتصارعان في عالم اليوم، لكن جذورهما ضاربة في أعماق التاريخ، الأولى: رؤية ترتبط فيها السياسة بالقيم برباط وثيق، تكون فيه السياسة تابعة للقيمة وما يجب أن يكون، وما يجب هذا عادة هو نموذج أخلاقي معياري، يعطي للخطأ والصواب دلالة قابلة للرصد والفهم.
رأى الفيلسوف اليوناني أفلاطون، مثلاً، أن السياسة يجب أن تكون انعكاسًا للقيم المطلقة، مثل الخير والعدالة والحكمة، أو أن تكون أداة لإدارة المجتمع وتحقيق الخير العام، يوازن فيها بين القيم والواقع، وفق أرسطو.
يشبه هذا الطرح ما قدمه علماء المسلمين بعد ذلك في تأكيدهم أن السياسة في الإسلام تقوم على القيم بالأساس، فالعدل، والشورى، والأمانة، وحماية حقوق الناس؛ أسس أي حكم رشيد، وأن الحكم الإسلامي المثالي هو الذي يوازن بين السلطة والمبادئ الأخلاقية لضمان تحقيق الخير للمجتمع، ومعيار نجاح السياسة يعتمد على التزام الحكام بالمبادئ والقيم الإسلامية على رأسها العدل، وتحقيق خيري الدنيا والآخرة.
بالمقابل، هناك رؤية ثانية، يعتبر ميكيافيللي أشهر مفكريها، تراجعت في هذه الرؤية مكانة القيم لصالح السياسة أو الواقع، ومن ثم باتت المصلحة الواقعية المحدد لما يجب فعله، وتآكل نموذج ما يجب أن يكون، وبالتبعية تبدلت دلالات الخطأ والصواب، فالتصور البراغماتي الواقعي للسياسة يقوم ابتداءً على فصل القيم عن السياسة، بل الاستخدام النفعي للقيم نفسها إن اقتضت المصلحة الواقعية ذلك، فالحُكم الناجح والسياسة الرشيدة لا تعتمد بالضرورة على الفضيلة، بل على القدرة على استخدام القوة والخداع عند الحاجة، وأن الحاكم ليس مُلزمًا بأن يكون أخلاقيًا، بل يجب أن يفعل كل ما يلزم للحفاظ على السلطة واستقرار الدولة، وبناء دولة قوية، بغض النظر عن الوسائل المستخدمة.
فالسياسة هنا ليست انعكاسًا للقيم ولا وسيلة لتحقيق الخير المشترك، ولا أداة للحكم الرشيد، بل صراع مستمر من أجل البقاء في عالم غير أخلاقي، وعلى مسلمات هذا النموذج أسس العالم السياسي الحديث، وباتت الواقعية السياسية المستندة لمنطق القوة ومصلحة الأقوى هي الحاكمة، وهو ما تجسد بفجاجة في السياسات الكولونيالية الوحشية ضد الشعوب المستضعفة.
تمثل سياسة ترمب الوجه المعاصر لنموذج السياسة البراغماتي في الحكم، فالرجل يرى العالم من منظور المصلحة والمنفعة، ويتعامل بمنطق الربح والخسارة الماديين، يبحث عن الصفقات الكبرى والمربحة دائمًا، ويفضل الأرباح الملموسة كالمال والأملاك والنفوذ، ولا تعنيه بالضرورة التأثيرات غير المادية أو الاعتبارات الإنسانية للصفقات.
يؤمن الرجل بضرورة استغلال الفرص طوال الوقت، وأن أفضل الفرص عادة ما تأتي في الأوقات الصعبة وغير المتوقعة، ويعتمد في عقد صفقاته أسلوب «التفاوض الهجومي»، ويعني أن التفاوض يبدأ عند فرض قوتك وعدم الاستعداد للتراجع، وطرح شروط مجحفة لإجبار الطرف الآخر على اتخاذ موقف الدفاع، يهدد بالقوة دائمًا ويسحق كل الأعراف تحتها.
فيما تمثل جنوب أفريقيا أحد هذه الشعوب المستضعفة التي عانت من ويلات نموذج ترمب السياسي في نسخته الأولى، ويلات تجسدت في الاحتلال ونهب الموارد وسرقة الأرض والفصل العنصري؛ لذا، فإن جنوب أفريقيا حين رفعت الدعوى وحين خسرت المعونة المادية، فهي تناضل لأجل ألا يعتاد العالم هذا النموذج الكولونيالي المتبجح مرة أخرى، تناضل وفاءً لثمن باهظ من دماء أبنائها افتدوا به كرامتهم وبلادهم.
بمعنى آخر؛ انحياز جنوب أفريقيا لغزة الآن أعمق من أن يستند لجيرة الجغرافيا أو وحدة التاريخ بمعناه البسيط، وإنما هو صلة لرحم الألم والمعاناة والظلم، انحياز الأمل والمؤازرة أنْ كذلك كنا من قبل فلا تيأسوا ولا تستسلموا، انحياز لانتزاع القيم ومعاني الشرف من براثن وحش كاسر يهدد إنسانيتنا جميعًا، لأنه لا يرانا سوى صفقة.