العناد الطبيعي عند الأبناء (2)
5 استراتيجيات للتعامل مع العناد الطبيعي للأبناء
تحدثنا في
المقال السابق عن العناد الطبيعي عند الأبناء، وأوضحنا أن العناد سِمة طبيعية في
بعض مراحل العُمُر وليست اضطراباً، ومرحلة تُعبر عن تشكل الإرادة وبداية الاستقلال
الذاتي.
وفي هذا المقال
سنتحدث عن كيفية التعامل مع هذا العناد الطبيعي، لا باعتباره خَصماً يجب قهره، وإنما
طاقة ينبغي تهذيبها، وصوت داخلي يحتاج إلى من يُحسن الإصغاء إليه.
التعامل الصحيح مع العناد الطبيعي
العناد ليس خصلة
سلبية ولا شبحاً يجب طرده من بيوتنا، بل رسالة فطرية في أعماقه تختبئ شرارة
الإرادة، وبذرة الإصرار التي صنعت أعظم المنجزات البشرية، غير أن هذه الطاقة
الكامنة، إن لم تُوجَّه بعقلٍ راشدٍ وفهمٍ نفسيٍّ سليم، قد تتحوّل إلى جدارٍ صلدٍ
يفصل الإنسان عن الآخرين، ويُقيّده داخل دائرة من التصلّب والعزلة.
والتعامل الصحيح
مع العناد الطبيعي ليس قمعًا له، ولا استسلامًا أمامه، بل هو فنّ الموازنة بين
الثبات على المبدأ والمرونة في الموقف.
1- تَفَهم قبل أن تُصلح:
من منظورٍ علمي
ونفسي، يُعدّ العناد سلوكًا طبيعيًا ينشأ كوسيلة للدفاع عن الذات وإثبات الهوية،
خاصة في مراحل الطفولة والمراهقة، فهو آلية داخلية تساعد الإنسان على بناء
استقلاله، غير أنّ المشكلة لا تكمن في وجود العناد، بل في كيفية التعامل معه، فعندما
يتحول العناد إلى رفضٍ دائمٍ للنقاش أو تَحدٍّ غير عقلاني، يُصبح عائقًا أمام
التواصل والنمو الشخصي، فعلينا أنت نتعلم مقاصد العناد ولماذا يتمسك الطفل في
مراحله المتنوعة به.
يقول د. عبدالكريم
بكار(1): «نحن في حاجة إلى الثقافة التربوية من أجل بناء الروح
الجماعية لدى الأبناء، ومن أجل فهم جوهر العمليات التربوية، وفهم الأساليب
والأدوات التي تساعد على نجاحها، ونحن في حاجة إلى الثقافة التربوية من أجل تجنب
الوقوع في الأخطاء»، كالتي يقع فيها كثير من الناس، بسبب جهله بالأجيال الحديثة
خاصة، وبسبب جهله بمراحل نمو الأبناء المتغيرة.
العناد الطبيعي
مرحلة من النمو النفسي، يُعبر فيها الطفل عن حاجته إلى التحكم في ذاته، فكل محاولة
لكسر إرادته تزرع فيه الخضوع لا الطاعة، والخوف لا القناعة، وقد لَخَّص المُحلل
النفسي إريك إريكسون ذلك بقوله: «في سعي الطفل للاستقلال، يحتاج إلى الدعم أكثر من
السيطرة»، فأفضل طريقة للتعامل مع العناد الإنصات بدلًا من المواجهة الصدامية، فحين
يشعر الفرد بأن رأيه يُحترم، يقلّ تمسّكه بموقفه، ويبدأ في التفاعل بعقلانية.
2- بين الحزم واللين.. التوازن الذهبي:
التعامل الصحيح
مع العناد الطبيعي يتطلّب قيادة ذكية للموقف، تجمع بين الحزم واللين، فالقسوة
تولّد تحدّيًا، واللين المفرط يُغذّي العناد، أما التوازن بين الاثنين فيخلق بيئةً
تُحفّز على الحوار وتُقلّل من التصلّب، ففي البيئات التربوية يُنصح باستخدام أسلوب
الإقناع التدريجي، وإشراك الفرد في اتخاذ القرار؛ لأنّ فرض الرأي يزيد من
المقاومة، بينما المشاركة تزرع الانتماء.
فليس المطلوب في
التربية أن نكون قُساة فيُطفئ الحزم جذوة الحياة، ولا أن نكون متساهلين حتى يذوب
اللين في ضعف المهابة، بل علينا أن نُمسك بخيط دقيق من التوازن، وهو ما أسماه
المُربون بـ«التوازن الذهبي».
فالحزم يضبط
السلوك، واللين يفتح القلوب، والتربية السويَّة لا تكتمل بأحدهما دون الآخر، فحينما
يرى الطفل أن الحزم نابع من حب وعدل، لا من قسوة وانتقام، حينها يتعلم أن النظام
ليس قيداً، بل طريق أمان، وحين يلمس في لين المُربي دفء التفهم، يُدرك أن الخطأ
فرصة للتعلم، لا سَيفاً للعقوبة، إنها معادلة دقيقة، أن تكون قوياً دون عنف،
وحنوناً دون ضعف، فمن جمع بينهما أحيا في قلب الطفولة الانضباط بالحب وليس بالخوف.
وتجد أن أعظم
مربٍّ نبينا صلى الله عليه وسلم قد جمع في أسلوبه التربوي بين اللين والحزم قبل أن
يعرف علم النفس الحديث قاعدة «التوازن الذهبي»، فقد كان لطيفاً رقيقاً حنوناً مع
أبناء ابنته؛ الحسن، والحُسين، رضي الله عنهما، وكان يتودد إليهما، ويُلاعبهما،
ويحنو عليهما، ولكن لم يمنعه ذلك من الحزم في المواطن التربوية التي تحتاج إلى
الحزم.
ففي الحديث أن الحسن
بن علي أخذ تَمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فِيه(2)، فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم: «كَخٍ كَخٍ» ليطرحها، ثم قال: «أما شَعَرتَ أنَّا لا نأكل الصدقة»(3)،
فاستخدام لغة المودة والتقويم في آن واحد من أسمى ركائز المُربي الناجح.
3- شاركه القرار بدلاً من أن تفرضه عليه:
لا يتعارض هذا
الأمر مع الرؤية التربوية الإسلامية، فالمشاركة والمشاورة أمر إلهي للنبي صلى الله
عليه وسلم، بأن يتعامل به مع أصحابه، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)، فحينما تمنح الطفل مساحة للاختيار،
تُشبع داخله حاجة السيطرة الإيجابية، فتنخفض مقاومته وتتحول طاقته من الرفض إلى
المشاركة، فتقول له مثلاً: هل تُفَضل أن ترتدي هذا القميص أم هذا؟ بدلاً من أن
تقول له: ارتدِ هذا فوراً، فهكذا يتحول الأمر إلى خيار، والإكراه إلى مشاركة،
ويتعلم الطفل حينها أن الطاعة لا تعني التنازل عن شخصيته وذاته.
وعلماء النفس
يقررون أنه حينما نُشرك أبناءنا في اتخاذ القرار، فإننا نمنحهم الإحساس بالمسؤولية
والانتماء، ونُعلمهم أن قرارات الحياة تُبنى على الحوار لا على الأوامر، يقول د.
مصطفى أبو السعد(4): «إن كل قرار مبني على الحرية يجعل الإنسان أكثر
إنسانية، وإن حياة الإنسان مجموعة من القرارات، صغيرة كانت أم كبيرة توصله في
النهاية إلى السعادة الأبدي».
4- امدحه حينما يتراجع عن عناده:
المدح والثناء
له تأثير السحر في العملية التربوية، فكلمةٌ طيبة وصادقة قد تُغير سلوكاً، وتُوقظ
وعياً، وتزرع في النفس بذور الثقة بالنفس، إنها لا تُكافئ الفعل وحسب، بل تُغذّي
الدافع الداخلي نحو الخير والسلوكيات الإيجابية.
ومع ذلك فللأسف
الكبير، كثير من الآباء والأمهات عيونهم لا تراقب إلا السلبيات، ولا ترصد إلا
المنكرات، وتنتقد وتسلب الابن كرامته لأنه قام بسلوك سلبي، ولكن الابن المسكين
حينما يقوم بعمل سلوك إيجابي ينظر حوله لعلَّه يجد من يُثني عليه ويُبارك له
مجهوده فلا يجد، كثير من المربين عيونهم عمياء وألسنتهم بَكماء عن المدح والثناء،
ولكنهم جنود أقوياء النقد والتوبيخ!
5- لا تكسر إرادته بل وَجّهها:
عصرنا الحديث عصر
القيادة والإبداع والتعلم الرفيع والابتكار والطموح، وحتى يسير ابننا في هذا
الرَّكب فيحتاج منا أن نُنمي إرادته ونقوي من عزمه، وألا نُفقده الثقة بالنفس،
وعلينا أن نَعلم أن إرادة الطفل ليست عدواً يجب قهره، بل طاقة تحتاج إلى توجيه،
فالطفل الذي يقول: «لا» لا يعاند، بل يُعلن عن اكتشاف ذاته، ويختبر حدود قدرته على
الاختيار، فكَسْره في هذه اللحظة هو كَسْر لجذوة الحياة في داخله، أما توجيهه فهو
بناء لشخصية حُرة وواعية.
وأكد علماء
النفس أن قمع الإرادة يُوَلِد الخُضُوع والجُبن وفقدان الثقة بالنفس، وتوجيه
الإرادة يصنع الثقة ويبني تحمل المسؤولية، فعلينا أن نكون الوقود لأبنائنا،
نُشجعهم، ونحفزهم، ونكون عونًا لهم بعد الله.
إن العناد
الطبيعي ليس عيبا يُقمع، بل طاقة تُهذب، وإرادة تُوجه، ومن فقه المُرَبِّي أن يرى
بعين ثاقبة أن خلف العناد عقلاً يتكون، وشخصية تُبنى، ونفساً تبحث عن ذاتها،
فعلينا أن نأخذ بِيَدِ هذه النفس ونُقومها ولا نكسرها، ولنصنع منه إنساناً حراً، ومُطيعاً
عن وعي واقتناع.
_____________________
(1) كتاب ابن
زمانه، التربية من أجل المستقبل، ص 16.
(2) فمه.
(3) رواه
الشيخان.
(4) كتاب الحرية،
ص 102.