كيف تساهم التطورات التكنولوجية في إعادة توزيع ميزان القوى العالمي؟

لقد كانت التطورات التكنولوجية دائماً قوة دافعة في تشكيل توازن القوى العالمي؛ فمن الثورة الصناعية إلى العصر الرقمي، أعادت الابتكارات تعريف الديناميكيات الاقتصادية والعسكرية والسياسية؛ ما مكَّن بعض الدول من الصعود، بينما تراجعت دول أخرى.
وفي القرن الحادي والعشرين، يعمل التقدم التكنولوجي السريع مرة أخرى على إعادة توزيع القوة العالمية، مع آثار عميقة على العلاقات الدولية والمنافسة الاقتصادية والاستقرار الجيوسياسي.
التفوق الاقتصادي
إن إحدى أهم الطرق التي تعيد بها التكنولوجيا توزيع القوة هي من خلال التحول الاقتصادي، فالدول التي تقود الابتكار التكنولوجي، مثل الولايات المتحدة والصين وأعضاء الاتحاد الأوروبي، تكتسب ميزة تنافسية في الاقتصاد العالمي.
على سبيل المثال، تعمل التطورات في الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطاقة المتجددة على خلق صناعات جديدة وتعطيل الصناعات التقليدية.
القوة الاقتصادية والقدرات العسكرية والذكاء الاصطناعي مجالات تحدد الدول التي تتمتع بنفوذ عالمي
والدول التي تستثمر بكثافة في هذه المجالات، مثل الصين بمبادرة «صنع في الصين 2025»، تضع نفسها في موقع القادة العالميين، وعلى العكس من ذلك، فإن الدول التي تفشل في التكيف تخاطر بالتخلف عن الركب؛ ما يؤدي إلى تفاقم التفاوت العالمي.
إن الفجوة الرقمية بين البلدان المتقدمة تكنولوجياً والبلدان النامية تتسع؛ ما يزيد من تركيز القوة الاقتصادية في أيدي قلة من الناس.
القوة العسكرية
تعد القوة العسكرية حجر الزاوية في النفوذ العالمي، وهي في طليعة ما يتم إعادة تشكيله أيضاً من خلال التكنولوجيا.
فلقد أدى تطوير قدرات الحرب السيبرانية والطائرات بدون طيار والصواريخ الأسرع من الصوت إلى تغيير طبيعة الصراع والدفاع، على سبيل المثال، كانت الولايات المتحدة تهيمن منذ فترة طويلة على التكنولوجيا العسكرية، لكن الصين وروسيا تسد الفجوة بسرعة.
إن التقدم الذي أحرزته الصين في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، إلى جانب تطوير روسيا للأسلحة الأسرع من الصوت، يتحدى التفوق العسكري التقليدي للدول الغربية، هذا التحول يخلق عالماً متعدد الأقطاب حيث يتم توزيع القوة بشكل أكثر توازناً؛ ما يقلل من الهيمنة الأحادية لأي دولة.
وعلاوة على ذلك، تعمل التكنولوجيا على إعادة تعريف القوة الناعمة والنفوذ العالمي، فلقد أعطى صعود المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي الدول أدوات جديدة لعرض قيمها وثقافتها وأيديولوجياتها.
القوة العسكرية حجر الزاوية بالنفوذ العالمي وفي طليعة ما يتم إعادة تشكيله من خلال التكنولوجيا
وهيمنت الولايات المتحدة تاريخياً، من خلال شركات مثل «جوجل» و«فيسبوك» و«إكس» (تويتر سابقاً)، على المشهد الرقمي، ولكن تطوير الصين لمنصات مثل «تيك توك»، و«وي تشات»، إلى جانب مبادرة «الحزام والطريق» (مشروع إنشاء شبكة من الطرق البرية والبحرية تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا لتعزيز التعاون الاقتصادي) يعمل على توسيع نفوذها العالمي، بدعم كبير من عدد هائل من التطبيقات الذكية التي تدعم التجارة الإلكترونية الصينية، فشراء منتج من الصين أصبح أكثر سهولة من التسوق في المتجر المحاذي للبيت.
وعلى نحو مماثل، يوضح استخدام روسيا للأدوات السيبرانية للتلاعب بالمعلومات والتأثير على الانتخابات كيف يمكن تسليح التكنولوجيا لتحقيق أهداف جيوسياسية.
الذكاء الاصطناعي
من جانب آخر، تعمل الأتمتة التي يقودها الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل أسواق العمل؛ ما يعود بالنفع على الدول التي يمكنها الاستفادة من إمكاناتها، بينما تضر بالدول التي تعتمد على الصناعات التقليدية.
هذا التحول ليس اقتصادياً فحسب، وإنما سياسي أيضاً، حيث تؤثر الدول ذات القدرات المتقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي على اللوائح العالمية ومعايير الأمن السيبراني والاعتبارات الأخلاقية في التكنولوجيا.
إن إعادة توزيع القوة واضحة أيضاً في مجال الحوكمة العالمية، فقد خلقت التطورات التكنولوجية تحديات جديدة، مثل تهديدات الأمن السيبراني، ومخاوف خصوصية البيانات، والآثار الأخلاقية للذكاء الاصطناعي، وتتطلب هذه القضايا التعاون الدولي، ولكنها توفر أيضاً فرصاً للدول لتأكيد الزعامة.
على سبيل المثال، تولَّى الاتحاد الأوروبي دوراً قيادياً في تنظيم خصوصية البيانات من خلال اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، ووضع معياراً عالمياً، وفي الوقت نفسه، تستفيد الصين من براعتها التكنولوجية لتشكيل المعايير العالمية، وخاصة في مجالات مثل البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس وحوكمة الذكاء الاصطناعي.
أخطار التبعية
التبعية حالة تعتمد فيها دولة أو كيان على آخر في تلبية احتياجاتها الأساسية أو تحقيق أهدافها، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو تكنولوجية أو أمنية.
في السياق التكنولوجي، تُعرف التبعية التكنولوجية بأنها اعتماد دولة ما على تقنيات أو موارد أو خبرات من دول أخرى؛ ما يحد من قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي أو الاستقلال في صنع القرار، على سبيل المثال، عندما تعتمد دولة على تقنيات الذكاء الاصطناعي أو البنية التحتية الرقمية التي تطورها دول أخرى، فإنها تصبح عرضة للتأثيرات الخارجية، سواء عبر فرض شروط سياسية أو اقتصادية أو حتى من خلال التهديد بقطع الإمدادات التكنولوجية.
الدول التي تستغل الابتكار التكنولوجي بشكل فعَّال ستشكل النظام الجيوسياسي المستقبلي
وربما السيطرة على البرمجيات والمعدات قد تكون سبباً في زرع برمجيات التجسس على الدول التابعة، هذه التبعية يمكن أن تقيّد سيادة الدولة وتجعلها أكثر عرضة للضغوط الخارجية، خاصة في ظل المنافسة الجيوسياسية بين القوى العظمى؛ لذلك، تسعى العديد من الدول إلى تقليل تبعيتها التكنولوجية من خلال تعزيز البحث والتطوير المحلي وبناء بنية تحتية تكنولوجية مستقلة.
أخيراً، فإن الوتيرة السريعة للتغير التكنولوجي تشكل أيضاً أخطاراً لا يدركها الجميع، وقد يؤدي تركيز القوة التكنولوجية في عدد قليل من الدول أو الشركات إلى ممارسات احتكارية وتفاقم التفاوتات العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عسكرة التكنولوجيا تزيد من خطر الصراع، وخاصة في المناطق المتنازع عليها، مثل بحر الصين الجنوبي وأوروبا الشرقية، حيث إن الافتقار إلى الإجماع الدولي بشأن تنظيم التكنولوجيات الناشئة يزيد من تعقيد توازن القوى العالمي.
لا شك أن التطورات التكنولوجية تؤدي دوراً حاسماً في إعادة توزيع موازين القوى العالمية، فالدول التي تستثمر في التكنولوجيا وتتبنى التقنيات الحديثة تتمتع بمزايا اقتصادية وعسكرية وسياسية، والتقدم التكنولوجي يعيد تشكيل توازن القوى العالمي باستمرار.
فالقوة الاقتصادية، والقدرات العسكرية، وقيادة الذكاء الاصطناعي، والبراعة في مجال الأمن السيبراني، تحدد بشكل متزايد الدول التي تتمتع بنفوذ عالمي، وفي حين تسعى القوى التقليدية إلى الحفاظ على هيمنتها، تستفيد الدول الناشئة من التكنولوجيا لتحدي الوضع الراهن.
ومع تقدم العالم إلى عصر التحول الرقمي السريع، فإن الدول التي تستغل الابتكار التكنولوجي بشكل فعال سوف تشكل النظام الجيوسياسي المستقبلي.