كيف يكون تحقيق الإخلاص عملياً؟

يقبل علينا خلال أيام معدودات أعظم شهر في العام؛ رمضان المبارك، الذي يستجيش في نفوس المسلمين معاني العبادة والعبودية، ومنها معنى الإخلاص، ويظن كثيرون أن الإخلاص مرتبة مخصوصة بعِلْية المسلمين من الزهّاد والمتعبّدين البالغين مقامات عالية في التجرد من حظوظ النفس والالتفات للدنيا، فأنى لنا نحن -عوامّ المسلمين- أن نتطلع لمثل ذلك؟! والحق أن مسألة الإخلاص تخصّ كل مسلم، وتَلزَم كلّ فرد في نفسه قدر وُسْعِه ووِفْق عِلمه، والوُسْعُ بالتربية والعِلم بالتعلّم.
وأوّل الإخلاص لله تعالى أن يكون همّك الإخلاص لله تعالى، فإنّ الإنسان بالطبيعة مخلص لهمومه، لكن من لم يهتمّ حقيقة لن يَصدُق حقًّا، ويا بؤس عُمرِ مُسلمٍ ينفقه منتسبًا لله تعالى ويُحاسَب على أساس انتسابه أمام الله تعالى، ولم يكن الله تعالى همّه حقيقة يومًا في عمره!
فإذن، كيف يكون تدريب النفس على ذلك؟
أولًا: جمع القلب على الله تعالى:
المقصود بجمع القلب على الله تعالى صدق محبّته تبارك وتعالى؛ فعندما يشهد المسلم بأنه لا إله إلا الله، فشهادته بمثابة توقيع عقد قلبي وإمضاء التزام وجداني، بأن يكون الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام أحب إليه مما سواهما، وبأن يكون أشد حبًا لهما مما عداهما عند الجمع، وأن يُغلِّبهما على ما سواهما حال التعارض.
ولأنّ القلب سُمّي قلبًا من طبيعة تقلّبه وتعدد مَشارِبِه وشُعَبِه، فذلك يعني تطلب الجهد واليقظة من صاحبه في جَمعه وتركيزه وتخليصه وإسلامه لله تعالى، وهذه رحلة مجاهدة مستمرة، بل هي رحلة العمر، لا محطة تتمّ مرة، فتدوم بعدها تلقائيًا أبد الدهر!
فإذا سألتَ: كيف يمكن للمؤمن أن يحقق التوحيد بجمع القلب والهَمّ، وهو كغيره من البشر تتعدد اهتماماته وشواغله؟
كان الجواب: تخيّل حين تختار مجال تخصّصك الأكاديمي، ثم تدرس أثناء ذلك التخصّص الواحد عددًا من المواد، فلا يتعارض توحيدك لقبلة التخصّص مع تعدد شُعَب أو فروع علومه، بل إنّ تعدد الفروع يعمّق فهمك للتخصّص، ويرسّخ علمك في ذلك المجال الواحد.
كذلك توحيد قِبلة قلب المؤمن لا يمنع تعدد اهتماماته وشواغله، إلا أنه يضبطها في دوافعها الأولى وقواعدها الضابطة وغاياتها النهائية، لتكون موافقة لشريعة التوحيد ومقوية للصلة بالله تعالى، لا شِرْكًا فيه أو تشتيتًا عنه أو بُعدًا منه.
إن توحيد الله تعالى ليس غاية ضمن غايات الوجود، ولا جانبًا من بين جوانب الحياة، بل هو المنبع والأصل الذي تنبثق منه وتتفرع عنه بقية المشاغل البشرية والجوانب الحياتية، التي هي كذلك من تقدير الله تعالى ليجعل منها للعباد سبل تعبّدٍ له في مختلف أنواع حركتهم في الحياة وحالاتهم الشعورية أثناءها.
ثانيًا: جمع الهم:
جمع الهَمّ يعني تركيز الاشتغال الفكري والوجداني على أمر معين.
والهَمُّ من الاهتمام بالشيء، أي العناية وصرف الفكر إليه.
فلا يُخلِص مُخلص حتى يكونَ الإخلاص هَمَّه بداية، وشغلًا شاغلًا له على الحقيقة، ممتدًا على مدار اليوم وفي أثناء تفاصيله، وهكذا يصير نهج حياته لا وقفة فُجائية فحسب في لحظة ما عَبْر اليوم ليستحضر فيها نية.
وتفكّر في مَثَل حبيبين في فورة بدء حبهما، تجد أن قلب كل منهما يخلص طواعية وتلقائيًّا لصاحبه.
هذا معنى الإخلاص ببساطة: دوام التفكير أو غَلَبة التفكير في ذلك الآخر، فوق أي مشاغلٌ أخرى مهما تزاحمت، ولله تعالى المثل الأعلى.
هذا هو مبدأ الإخلاص، أن يشغل فكرك رضا ربّك لأيّ مدة من الزمن ولو لحظة، هذا إخلاص تلك اللحظة، إذ استخلصت نفسك من التفكير فيما وفيمن سواه، واجتمع في تلك المدة قلبك وهمك تجاه الله تعالى.
- مثال (1): وأنت في الصلاة: جهادك في التركيز مع ما تقول، ورَدِّ فِكرك كلما شَرَد، وعدم الاستسلام أو الاسترسال وراء السرحان، هذه العمليات كلها هي مكابداتك في تخليص نفسك لربك، يُرجى أنّ الله تعالى يتقبلها منك، ويثيبك عليها، ويهديك لما هو أحسن.
- مثال (2): وأنت تَحضُر درسًا من دروس العلم، أن تسير في الطريق للدرس تدعو الله تعالى في نفسك أن ينفعك بما يُعلِّمك ويَدُلَّك عليه، ثم في أثناء الدرس تذكر ربك فتستغفره بينك وبين نفسك، ثم بعد الدرس تحمده على ما علّمك وتسأله حسن العمل به، ثم في أثناء الطريق تدعوه بحفظ دينك عليك، ثم تذكره بالذكر المشروع عند ركوب المواصلات.. إلخ.
كل هذه اللحظات والمواقف المتتالية على صِغَرها، التي لا تتطلب أكثر من أن تركّز مع الله الواحد، في كلٍّ منها منفردة بذرة إخلاص، وكلما زادت البذور وتفرّعت على مدار يومك ثم أيامك؛ تورق في نفسك نبتة اسمها الحضور مع الله تعالى، فهذه النبتة هي مثال الرحلة التي تنمو معك مدى العمر، وفروعها -وليس نهايتها– هي المحطات التي تبلغها من عمل أو إنجاز ما.
بالمثابرة في تكرار هذا الاستحضار، بهدوء وصبر ومداومة، تتعوّده حتى يورق في داخلك بتوفيق الله تعالى شجرة الإخلاص.
كيف أتأكد من إخلاصي؟
لا يمكن لأحد أن يتحقق من إخلاصه ولو في الخفاء، لأنه لا ينفك عن حظوظ نفسه ذاتها، التي هي أخفى من دبيب النملة وربما أشد وَقْعًا من مطالعة الخلق، وفي الحديث: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ»، فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَقُولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ»(1).
لذلك، اجعل ديدنك كلما شَكَكتَ في صلاح عملك وصدق نيّتك، أن تُتبِع الحسنة بالحسنة تُعَضّدها وتشدّ أزرها، وتستكثر من الخيرات عسى أن يَجبُر بعضها نقص بعض، وتجدد التوبة الخاصة مما تعلم من ذنوب أو تفريط، والتوبة العامة مما لا تعلم، فإنّ العبد لا يخلو منهما بحال.
من الخطأ أن يتهيأ كثير من المسلمين أن قضية الإخلاص متروكة لفئة مخصوصة من عِليَة المؤمنين ويُعفَى منها عموم المسلمين، هذا تصور خاطئ وتهرّب من المسؤولية؛ إذ كلُّ مؤمن بالله تعالى مُكَلَّف ومخاطب بالتوحيد الذي روحه الإخلاص، وطالما أنه تكليف ممن خلق العباد ومشاغل العباد، فهو في الوُسع، أي ممكن.
وإذا علمتَ أن الله تعالى هو مقلّب القلوب ومصرّفها (كما كل الأمور جملة)، أيقنتَ أنك لست من يملك ضبط قبلة قلبك وتقلباته بنفسك، وإنما دائرة حركتك ضمن نطاق الإرادة الممنوحة لك أن توجهها لسؤال ربك تعالى تضرّعًا وخفية أن يعينك على ذلك ويهديك إليه ويثبت قلبك على دينه، ويجعل لك نورًا يصِله به ويرزقك إصابة الإخلاص بفضله وتوفيقه تعالى.
ولن تبلغ حتى تصدق، فلا تبرح إلى أن تصدق!
___________________________
(1) مسند أحمد: مسند الكوفيين، حديث أبي موسى الأشعري (19606).