23 فبراير 2025

|

ليلة النصف من شعبان.. فضائلها وأعمالها

ليلة نصف شعبان ليلة طيبة مباركة ورد في فضلها أحاديث ثابتة وتتابعت أجيال الأمة على الاعتناء بها واعتبار فضلها، ففي الحديث: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» (رواه ابن ماجه، والمنذري في الترغيب والترهيب وصححه، وحسنه الألباني بمجموع طرقه). 

وقد رواه البيهقي في «شعب الإيمان» عن كثير بن مرة الحضرمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في ليلةِ النصفِ من شعبانَ يغفرُ اللهُ لأهْلِ الأرْضِ، إلّا لمشرِكٍ أوْ مُشاحِنٍ» (صححه الألباني في صحيح الجامع 4268).

كما روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «أصمتَ من سرر شعبان؟» قال: لا؛ وفي الحديث معنى الحث على صوم نصف شعبان، والغالب أن ذلك بوصفه يوماً من الأيام البيض الثلاثة، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر التي يستحب صيامها في كل شهر، ويتأكد صيامها في شهر شعبان لحث النبي صلى الله عليه وسلم عليه خاصة، والسرر جمع سرة، وسرة الشيء وسطه.

وقد تتابعت أجيال الأمة على تعظيم ليلة النصف واغتنامها، فقال الإمام الشافعي في «الأم»: «إنَّ الدعاء يستجاب في خمس ليالٍ: في ليلة الجمعة، وليلة الأضحى، وليلة الفطر، وأول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان».

وقال ابن رجب في «لطائف المعارف»: «ليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة».

وقال ابن تيمية: «أما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة».

وقال ابن الحاجّ المالكي في «المدخل»: «وكان السلف رضي الله عنهم يُعَظِّمونها -ليلة النصف من شعبان- ويُشَمِّرُون لها قبل إتيانها، فما تأتيهم إلا وَهُمْ متأهِّبون للقائها، والقيام بحرمتها».

وقال الفاكهي في «أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه»: «وأهل مكة فيما مضى إلى اليوم؛ إذا كان ليلة النصف من شعبان خرج عامة الرجال والنساء إلى المسجد، فصلَّوا، وطافُوا، وأحيَوْا ليلتهم حتى الصباح بالقراءة في المسجد الحرام، حتى يختموا القرآن كله..».

وقد صنف عدد من أهل العلم أجزاء حديثية في فضلها منها «الإيضاح والبيان لما جاء في ليلتي الرغائب والنصف من شعبان» للإمام ابن حجر الهيتمي، و«التبيان في بيان ما في النصف من شعبان» للملا علي القاري.

أما رفع الأعمال فالثابت أنه يكون في شهر شعبان عامة ولا دليل على أنه يكون في ليلة النصف خاصة، فقد ورد في الحديث: «ذاك شهرٌ يغفلُ الناسُ فيه عنه، بين رجبَ ورمضانَ، وهو شهرٌ تُرفَعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، وأُحِبُّ أن يُرفَعَ عملي وأنا صائمٌ» (صحيح الترغيب (1022)، وحسّنه أكثر الأئمة). 

ومن اللافت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نبه في فضل هذه الليلة على أن للمغفرة فيها شرطين، هما: البراءة من الشرك، والبراءة من المشاحنة.

ويجدر بنا أن نتوقف أمام حديث أبي موسى الذي سبق ذكره الوقفات الآتية:

- «إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان»؛ الله تعالى مطلع على عباده على الدوام لا تأخذه سِنَة ولا نوم، فليس المقصود هنا اطلاع المراقبة أو اطلاع التدبير، لكنه اطلاع المغفرة والتفضل، فهو اطلاع مخصوص شرف الله به تلك الليلة الفاضلة.

- «فيغفر لجميع خلقه»؛ المغفرة من صفات الرب الكريم، وهي من السعة بحيث تسع في ليلة واحدة جميع الخلق إلا من أبى وخرج عن استحقاقها، وفي هذا دليل بالغ على سعة رحمة الله، وسعة مغفرته تجعل العبد دائم التعلق بتلك المغفرة لا ييأس منها أبداً مهما عظمت ذنوبه؛ (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).

- «إلا لمشرك»؛ الشرك كل ما يناقض أصول الإيمان، وهو مفسد للدين كله، ومحبط للعمل، ومضيع للدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر: 65).

والمسلم مطالب بمراجعة إيمانه ومداومة الحذر من مظاهر الشرك وإن دقت فلا يدعو غير الله ولا يحلف بغير الله ولا يخاف غير الله ولا يرجو غير الله ولا يعتقد في ساحر ولا عراف.. خوفاً من عاقبة الشرك الوخيمة؛ (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة: 72).

- «أو مشاحن»؛ الشحناء شحن القلب وعقده على بغض عباد الله أو قطيعتهم في غير حق، وتأخير قبول المتشاحنين متكرر في مناسبات الرحمة ومواسم المغفرة، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا».

وكأن الله يريد وهو يغفر لعباده أن يتغافروا، ويريد لمواسم الإيمان والطاعة أن تكون مناسبات كريمة للتسامي فوق الأحقاد والتسامح بين العباد، خاصة ونحن مقبلون على شهر رمضان ببركاته التي لا منتهى لها، وكأن الله يريد ألا يدخل رمضان إلا وقد تهيأت القلوب لاستقباله بالسلام والسلامة، وقد سُئِل ابن مسعود: كيف كنتم تستقبلون شهر رمضان؟ قال: «ما كان أحدُنا يجرؤ أن يستقبل الهلال وفي قلبه مثقال ذرَّة حقد على أخيه المسلم».

فلتكن ليلة النصف رحلة للقلوب إلى الله بالدعاء والمسامحة وسلامة الصدر؛ رجاء أن تدركنا فيها الرحمة والمغفرة، وأن يشملنا فيها اطلاع الرب الكريم. 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة