متى بدأ النفاق؟

أصناف الناس في مكة 

كان الناس في مكة صنفين؛ مؤمنين بالله ورسوله، ومشركين بالله جاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحاب رسول الله من المهاجرين لم يكن بينهم منافق واحد، وبدأ النّفاق أول ما بدأ بين قبائل الأنصار بعد الهجرة، بل وبعد معركة بدر.

بداية النفاق 

تحدث ابن كثير عن بداية النّفاق فقال: «وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية، لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يُظهر الكفر مستكرهاً، وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قینقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قريظة حلفاء الأوس.

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام ، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضًا، لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تُخاف، بل قد عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرةً من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت واقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعزّ الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول - وكان رأسًا في المدينة وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يُمَلَّكُوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعد بدر- قال: هذا أمر قد توجه، فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هم على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وجد النّفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرها، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه، رغبةً فيما عند الله في الدار الآخرة».

رأس النفاق 

وقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا، عليه إكاف، تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذاك قبل وقعة بدر، حتى مرَّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمَّر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبّروا علينا، فسلّم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء! لا أحسن من هذا. إن كان ما تقول حقا، فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك. فمن جاءك منا فاقصص عليه.

فقال عبد الله بن رواحة: أغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، قال: «أي سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبيّ، قال: كذا وكذا؟».

قال: اعفُ عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوّجوه فيعصّبوه بالعصابة، فلما ردّ الله بالحق الذي أعطاكه شرِق (أي غصّ وحسد النبي صلى الله عليه وسلم) بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم).

قال النووي: اتفقوا على أن يجعلوه ملكهم، وكان من عادتهم إذا ملكوا إنسانًا أن يتوجوه ويعصبوه.

هذا الحديث رواه عروة عن أسامة بن زيد، وفي حديث آخر رواه مسلم عن ابن شهاب وفيه الزيادة التالية: وذلك قبل أن يُسلم عبد الله.

قال النووي في شرح هذه الزيادة أي قبل أن يظهر الإسلام، وإلا قد كان كافرًا منافقا ظاهر النفاق.

نماذج للمنافقين 

إذن، فحديث مسلم يوثق الرواية التي ساقها ابن كثير في تفسيره، ويؤكدها، وفي هذا وذاك عبر كثيرة، أبرزها ما يأتي:

1- ظل عبد الله بن أبيّ على شركه حتى كانت وقعة بدر العظمى التي أعزّ الله بها دينه، فأظهر الإسلام وأبطن الكفر، وهذه كانت بداية النفاق في تاريخنا الإسلامي.

ويبدو أن ابن أبي لم يفقد معظم آماله إلا بعد معركة بدر، أما قبلها فكان يرى أنه يستطيع طرد الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، وما كان يتصوّر أن الأمور ستتغير في حماه تغيرا جذريًا، وأن رابطة العقيدة والدين ستصبح في نفوس المؤمنين أقوى وأمتن من رابطة التراب والطين، وأن ابنه عبد الله سيكون من أعدائه ومن أقرب الناس إلى عدوّه محمد صلى الله عليه وسلم.

2- قال ابن كثير: ودخل معه -أي مع عبد الله بن أبيّ- طوائف ممن هم على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب.

عندما أظهر شيخ المنافقين الإسلام لم يتصرف تصرفًا فرديَّا، وإنما كان بعمله هذا يرسم وأصحابه خطوط التآمر والدس والخيانة، وكان من أطراف هذه المؤامرة طوائف من أهل الكتاب -أي اليهود والنصارى من خارج المدينة- ودخلت هذه الطوائف في الإسلام حسب الطريقة نفسها التي سار عليها زعيمهم (ابن أُبيّ).

وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرُ) (الأنفال: 73).

3- كان أهل المدينة قد اتفقوا على تتويج عبد الله بن أبي ملكا عليهم، وجاء هذا الاتفاق بعد حروب طاحنة بين مختلف قبائل يثرب.. ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبح قائد المدينة وما حولها.

فابن أُبيّ وأنصاره من المنافقين الذين لم يعرف الإسلام إلى قلوبهم سبيلا كانوا يرون أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد انتزع الحكم منهم، واختار أعوانًا له من الغرباء والضعفاء، وفي ظل هذا الحكم الجديد تجرّأ العبيد على مالكيهم، فالمنافقون هم من الملأ الذين سلب منهم الإسلام مصالحهم وزعامتهم، وأطاح بالأنظمة والأعراف التي كانوا يفرضونها على الناس.

ومما ينبغي التأكيد عليه أن أغلب أنبياء الله ورسله في جميع حقب التاريخ كانوا من الملأ، وذلك لأن الدعوة إلى وحدانية الله وعدم الإشراك به تصطدم أشدّ الاصطدام مع أهوائهم وشهواتهم ومنافعهم. والمنافقون قبل ذلك كله عشاق زعامة، وعبيد مصالح، لا يقصرون في امتطاء كل مركب يضمن لهم السيادة والقيادة، ومن أجل هذا يؤمنون أول النهار ويكفرون آخره، ويخاطبون كلّ إنسان بالأسلوب الذي يحبه ويرضاه (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ) (البقرة: 14).


__________________

المصدر: الشيخ محمد سرور زين العابدين، كتاب «مساجد الضرار.. كيف نُحصّن الصف الإسلامي من المنافقين؟»، دار الأرقم.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة