6 سمات للثقافة الإسلامية بعصر العولمة الرقمية

تغير شكل عمليات التواصل والمعرفة والقيم الاجتماعية مؤخراً، وتحديداً في العقد الأخير؛ حيث يشهد العالم ثروة رقمية شاملة أنتجت ما يسمى بعصر «العولمة الرقمية».

وفي هذا المشهد المختلط والمعقد، تقف الثقافة الإسلامية أمام سؤال مصيري يجب أن يتردد بصورة متكررة على أسماع المسلمين: كيف تحافظ الأمة على أصالتها في عالم يتجه نحو التماثل القيمي، والتفريغ الروحي؟

والجواب نجده في كتاب الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)؛ وسطية تجمع بين الانفتاح على العالم، مع التمسك بالثوابت، ومن خلال هذه الرؤية الوسطية، تتجلى 5 سمات أساسية للثقافة الإسلامية في زمن العولمة الرقمية:

أولاً: التوازن بين الأصالة والمعاصرة:

قامت الثقافة الإسلامية منذ بدايتها على مبدأ التفاعل الإيجابي مع الآخر دون ذوبان، حيث إنها ثقافة حوار لا صدام، واستيعاب لا استلاب، ويتضح ذلك في التكوين الثقافي للدولة الإسلامية في بداية توسعها.

يقول د. طه جابر علواني: «إن الإسلام ليس ديناً منغلقاً على ذاته، بل مشروع حضاري يمتلك القدرة على تجديد أدواته مع حفظ جوهره»(1)؛ وهذا يظهر جلياً في تاريخ الدولة الإسلامية المتعاقب.

فبالرغم من الفتوحات الموسعة واختلاط الشعوب فإن المسلمين احتفظوا بقيمهم وأخلاقهم وسلوكيات دينهم، بل استطاعوا فرض تلك القيم على غيرهم مع القدرة على الانتقاء والاستفادة من النظام المدني الموجود مسبقاً، كما تم قبول نظام الدواوين.

وفي السياق الرقمي، يتحقق التوازن في استخدام أدوات العولمة (كالمنصات الرقمية ووسائل الإعلام الجديدة) لتقديم الرسالة الإسلامية بلغة معاصرة، دون أن تتحول هذه الوسائل إلى مصدر لطمس الهوية، أو تسطيح الوعي، باختصار هو القدرة على الانتقاء تبعاً لقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، وهي قاعدة قرآنية توجه السلوك الثقافي نحو الحكمة والتوازن في التعامل والانتقاء مع البيئة الفكرية الجديدة.

ثانياً: الانفتاح الواعي والحوار الحضاري:

يؤكد الإسلام مبدأ التعارف الإنساني، لا التنافر الثقافي، وذلك كما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13).

يقول د. محمد عمارة: «إن الثقافة الإسلامية تمتلك قابلية الحوار؛ لأنها تنطلق من رؤية توحيدية ترى الاختلاف سُنة كونية لا تهديداً للبشرية»(2)، وفي زمن العولمة الرقمية، لا يكون الانفتاح حضوراً رقمياً، بل مشاركة فكرية راشدة تقدم الإسلام بوصفه مشروعاً إنسانياً شاملاً، لا أيديولوجية مغلقة.

ثالثاً: الأخلاق كمنظومة ضابطة للسلوك الرقمي:

لا يمكن الحديث عن ثقافة إسلامية دون استحضار الأخلاق التي تشكل جوهرها، في الوقت الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (رواه مالك)، وهنا يؤكد طه عبدالرحمن أن الأخلاق هي الأساس الذي تبنى عليه المعرفة والتقنية، وليست مجرد نتيجة لهما، فالمعرفة والتقنية لا تصبح صالحة وذات قيمة، إلا عندما تنبع من مبادئ أخلاقية، وهي ما يميز روح الحداثة الحقيقية(3).

فالأخلاق في المفهوم الإسلامي هي المبدأ الذي يحدد وجود وجدوى المعرفة والتقنية، والأخلاق كذلك هي سر صلاحهما، ولذلك فأي تأسيس لحداثة إسلامية ناهضة يجب أن ينبني من خلال التمييز بين التلقي المجرد لكل ثقافة واردة، وإنما يأتي من خلال التراث الإسلامي الأصيل مع بإبداع وتجديد، لا مجرد تقليد للحداثة الغربية.

رابعاً: العلم والمعرفة بوصفهما عبادة ومسؤولية:

ومن أبرز سمات الثقافة الإسلامية، أن العلم عبادة، والعقل أداة للإعمار لا للجدل، فقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة» (رواه مسلم)، وفي زمن العولمة الرقمية، حيث تتدفق المعلومات في كل دقيقة لتصل لنسب هائلة من البشر، تظهر الحاجة للتمييز بين العلوم والمعرفة الرقمية، فالمنشورات اليومية، ومقاطع «تيك توك» ليست العلم الكافي لتكوين شخصية سوية، فيرى مالك بن نبي «أن الأمة لا تنهض بالمعلومات المتراكمة، بل بما يسمى بالوعي المنتج الذي يحول المعرفة إلى طاقة حضارية»(4).

ولذلك تسهم الثقافة الإسلامية في تحويل الفضاء الرقمي من ساحة استهلاك إلى منصة تعلم وإنتاج.

خامساً: الوسطية في استهلاك المحتوى الرقمي:

وتتميز الثقافة الإسلامية بالوسطية كقيمة محورية، لا تقتصر على العبادات، بل تمتد إلى نمط الحياة والاستهلاك، فيقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67)، وفي البيئة الرقمية، تعني الوسطية الاستخدام الرشيد للتكنولوجيا، بحيث لا يتحول المسلم إلى عبد للشاشات، ولا منغلق عنها خوفاً من الانحراف، فيرى الشيخ القرضاوي أن الوسطية ميزان الأمة الذي يحميها من الغلو في الدين أو التفريط في الدنيا(6).

وبذلك تكون الثقافة الإسلامية دعوة إلى الاعتدال الرقمي الذي يوظف التكنولوجيا لخدمة الإنسان لا لاستعباده.

سادساً: البعد الجماعي والتكافل الإنساني في الفضاء الرقمي:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (متفق عليه)؛ فالثقافة الإسلامية تقوم على روح الأمة الواحدة وليس عالم الفرد القائم بذاته.

وفي عالم الشبكات تتجلى هذه الروح في التضامن الرقمي عبر المبادرات الإنسانية وحملات الإغاثة الإلكترونية والدفاع عن قضايا المظلومين.




__________________

(1) من كتاب أزمة الفكر الإسلامي المعاصر للدكتور طه جابر علوان.

(2) من كتاب الإسلام والعولمة للدكتور محمد عمارة.

(3) من كتاب «روح الحداثة» لطه عبدالرحمن (بتصرف).

(4) من كتاب «مشكلة الثقافة» لمالك بن نبي (بتصرف).

(5) الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف».

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة